الرؤى الفكرية والجمالية الشاعر أحمد الخاني والرؤى الفكرية والجمالية – كيف نجد الرؤى التي توافق روح العصر والمجتمع؟ ج / 6
عند قراءتي للشعراء الكلاسيكيين الكرد أقف أكثر وقتاً عند الشاعر الكبير “أحمد الخاني ” الذي يعتبر من أشهر الشعراء الكرد على الإطلاق وأعلاهم شأناً وسيرة وذكراً وكلما تجولت في دهوك كردستنان العراق أبحث عنه بين الكتب وأقف لحظات أمام صورته لأسأله من أنت لكي تكون بهذه المكانة العالية والراقية والقيمة بين الناس عامة وبين الأدباء والمفكرين والباحثين والمؤرخين خاصة ؟ وفي نفس الوقت أبتسم سمواً لوجوده في هذا العالم رغم رحيله منذ زمن بعيد ،والجدير بالذكر قبل أن أكتب مقال ” الذات واللا ذات عن الأديب الكبير رشيد فندي ” الذي نشر في صحيفة الفكر للثقافة والإعلام لمحررها الأديب الكبير المبدع جلال جاف الملقب بالشاعر الأزرق وقد خصص صفحة خاصة لقصائدي ومقالاتي الأدبية، أرسل الأديب رشيد فندي مع بن أخي وسام ياسين بعد أن كلفته بزيارة الأديب بدلاً عني لأني كنت خارج مدينة دهوك ،أرسل كتب قام بتأليفها ومنها ” كتاب مناقشات حول خاني دراسات نقدية بغداد عام 1986م وكتاب من ينابيع الشعر الكلاسيكي الكردي الجزء الأول أربيل 2004م” وقد كان الكتابان منبعين للمعلومات والإشارات الزمنية التاريخية الأدبية جاهد الأديب رشيد فندي لدراستها وتحليلها بشكل رائع ،ومن هنا أتت فكرة كتابتي عن الشعراء الكلاسيكيين الكرد بصورة عصرية بعيدة عن الغموض والتعقيد واخترت دراسة جوانب شعرية خاصة لكل شاعر مع المعرفة الموجزة للشاعر وأتمنى تكون قبس من نور في عالم الأدب الكردي خاصة والعربي والعالمي عامة ، ونعود لشاعرنا الكبير ” أحمد خاني ” الذي حظي بكل تلك المكانة كونه مؤسس الشعر القومي الكبير وصاحب المدرسة الفكرية في ميدان الشعر الكردي ومنذ أكثر من ثلاث قرون قال وكتب عما يفكر فيه الكرد في هذا اليوم وما يعانون منه من مشاكل داخلية وخارجية وكلما ضاقت بهم السبل وأحسوا بالمظالم رأوا خاني قد ينظر إليهم محدقاً في وجوههم لدى تصارعهم وتحاربهم على اللا شيء وكأن لسان حاله يقول لقد نبهتكم قبل ثلاث قرون ولكنكم لم تبالوا وظللتم كالسابق تتحاربون على اللا فكر واللا موضوع واللا سياسة ، تفوق خاني في مختلف علوم عصره وهضمه للثقافات المختلفة من يونانية وإغريقية وعربية وفارسية ومع سعة اطلاعه هي دلالة أكيدة أخرى على نباهته الحادة ومعرفيته التي تبقيه واحداً من أعظم مفكري وشعراء الكرد والذي لا يزال فكره ماثلاً للعيان حتى اليوم ولا زال الجدل محتدماً حول فكره وشعره وشخصيته ، وبالرغم من أن ملحمته الشعرية ” مم وزين ” التي اخترت بعض من لمحات رؤاها الفكرية والجمالية والفلسفية ، قصة فولكلورية غرامية شائعة في أوساط الشعب الكردي وكانت تروى في ليال الشتاء الطويلة في كردستان وكانت أصل القصة الفولكلورية تحت اسم ” مه م ئالان ” وهي مطبوعة في أكثر من نسخة مثلاً ” مه م آلان ، ترجمة د . الكبير عز الدين رسول ومم آلاني ترجمة د. الكبير بدرخان السندي ” إلا أن خاني قام في عصره بدراسة تلك القصة الفولكلورية دراسة بكل جوانبها الظاهرة والجوهرية وقام بتهذيبها وتركيزها ووضع فيها خلاصة رؤاه الفكرية والجمالية والفلسفية والتصوفية وتعامل معها تعامل الصائغ الخبير مع خام الذهب إذ صبها في قالب جديد يتوافق مع روحية عصره وواقع مجتمعه وفي نفس الوقت تعتبر أفضل قصة فولكلورية تفيد في الإفصاح عن مكنونات نفسه وما يود تقديمه بسمو وجمال للمجتمع أواخر القرن السابع عشر الميلادي ليفض غبار الماضي عن نفسه والإسراع واللحاق بركب الحضارة الماثلة في ذلك الزمن ببيت الشعر التالي ” لأشرح هموم قلبي بالقصص ، واجعل من زين ومم حجة ” إذا القصة وسيلة ليشرح من خلالها هموم قلبه وفلسفته وحياته ، تعتبر ” مه م وزين” الشعرية خير قصة مرشحة للتفسير إذ تتخللها مسائل عدة متميزة فكرياً وجمالياً فيقول على لسان حال ” الناي ” محاوراً ومجادلاً من خلال ” الناي عن مشاعره وإحساسه ” حينما قطعتني ( أنا الناي ) من القصب ” التي تبدو هنا من وجهة نظر نفسية واسطة للبوح والتي تشكل مكاناً رغم صغر الناي واسعاً للتجليات الضمنية الفكرية والجمالية فالناي برؤيته الخاصة رؤية عملية فإن الهواء والصوت واللحن المنبعث منها عذب وشجي وجميل ولكن اقتطاع الجزء من الأصل وكأن الناي اقتطع من موطنه وأهله وأصدقائه ومكانه ” أبعدتني عن أصدقائي ، أهجرتني عن الأماكن والمواطن ” ومن خلال جسد الناي المثقوب الذي يمارس خلالها الهواء نشاطاً يصعد وينزل للمادة الروحية والفكرية والجمالية المطروحة بأمر الله ” كن فيكون ” إذ يحمل الناي معنى واسع للحقيقة والتداعيات المجتمعية وهذا الوصف البلاغي في أمر الله ” كن فيكون ” لا يمكن أن يكون إلا إبداعاً من خاني ورابطاً مهما يطرق على شيء أخرجه من القصب ففتح الثقوب على طول جسم الناي بفعل جمار العشق ” ثقبت قلبي بجمار العشق ” ونلاحظ إشارة خفية في كلمة ” العشق ” إن الناي إنما يخرج ألحانه الشجية العذبة في عشق الحياة والإنسان والوجود وبالتالي عشق الله في تلميح صوفي عميق .
(( حينما قطعتني ” أنا الناي ” من القصب
لم يكن بمستطاعي الصراخ أو الصياح
أبعدتني عن أصدقائي
أهجرتني عن الأماكن والمواطن
وجعلت من عقدي وأوصالي مثقوبة
من الرأسين بأمر ” كن فيكون “
وبعدها وفي روضة العشق
ثقبت قلبي بجمار العشق ))
وفق فكرة الناي الجميلة وفي نفس الفصل يتعرض خاني في معرض تحدثه عن ” القلم ” والى خطوط القلم التي كانت سائدة في زمانه والتي لا تزال باقية إلى الآن فيبدي رأيه في الحسن منها والقبيح وفي الناعم والكبير ، يبين من خلال القلم من خلال وصفه الراقي التعامل مع الخطوط كعارض لجمالية الخطوط بمعناها المتجلي والضمني ” عندما يكون الخط غبارياً ناعماً ، فلا يكون بعيداً عن اللطافة ” فتعدد الخطوط واختلافاتها تكون بلورة لموقف خاني ورؤيته الفكرية والجمالية حينما يتداخل وصفه للخطوط بوصف الوجوه الجميلة للحسناوات والتي تشبه الأوراق البيضاء الصافية فالخط القبيح على الورقة البيضاء يشوهها كما تشوه الوجوه الصباحية القمرية الجميلة إن وضعت عليها قلائد قبيحة أو وضع اللجام حول الأعناق ” أن لا يكون الخط في وجوههن كالقلادة ” فالخطوط الغباري ، المشق ، الثلث ،والنسخ ” وغيرها أسماء لأنواع الخطوط المتداولة في زمانه فيمدح الخط الغباري الناعم ثم يرى تداخل الحروف بغزارة في خط المشق وكبر حجم الحروف في الثلث والنسخ نسخة جمالية على الورقة الجميلة إلى تركيب يشبه القلادة فالخط برؤيته الجمالية زينة مؤثرة على الورقة ما لم يتحول إلى ما يشبه اللجام أو المقود الذي يشوه من جمال الوجه ، يتعامل خاني مع القلم بمخاطبته في هذا البيت ويحاوره ” أيها الشاعر الصاغر المطرق رأسه ، أيها الساحر الساخر والاسطوري ” آت من ينابيع روحية وفكرية وحسية من خلال حبه للقلم وللجمال الذي يفسر السبب الجمالي والضمني الذي لا يتخلى عنه .
(( عندما يكون الخط غبارياً ناعماً
فلا يكون محتشداً كالمشق
أو كبير الحروف كالنسخ والثلث
فيغدو ناسخاً لنسخة الجمال
عديم الرونق والضياء والكمال
لذا على الحسناوات الرائقات
أن لا يكون الخط في وجوههن كالقلادة
فالخط زينة جميلة في الوجوه القمرية
إن لم يتحول إلى لجام في الوجوه ))
ومن رؤية الناي والقلم والخطوط إلى عوالم الفلسفة التي من خلالها يبين خاني علاقة العناصر الأربعة ” الماء والتراب والنار والهواء ” حسب الفلسفة القديمة مع بعضها ،يبين تفاعلها بحيث لا يمكن لأحدها إن يعمل دون الآخر ” إن انطفأت النار فالهواء هواء وإن أنقطع الماء فالهباء هباء ” تبين مدى العلاقة بين النار والهواء فلو انطفأت النار فالهواء هواء تعني الهواء الأولى الفارغ والخالي والهواء الثانية منها قول الله تعالى واصفاً المشركين ” وأفئدتهم هواء ” أي فارغة خالية عديمة الفائدة وكذلك الماء والتراب فلو انقطع الماء وأصبح غورا فالتراب هباء والهباء الأولى ستتحول إلى دقائق غبار في الجو والهباء الثانية ومنها قوله تعالى ” هباء منثورا ” ويعني ” خاني ” ما قيمة التراب لولا وجود الماء ومن هذا المنطلق يدخل خاني إلى رؤية الحياة والكون ومصير البشر هذا الإنسان المخلوق الضعيف الإنسان ليس نهايته سوى الاندثار في باطن الأرض ” الأفلاك كالطواحين ” هذه الأفلاك الدنيا والحياة مثل الطواحين دائمة التغيير والانقلاب وكما تهرش وتطحن الحبوب وتسحق من قبل الطواحين فإن الطاحونة الكبرى الدنيا بتغيراتها ولياليها ونهارها ستسحق غلتها أسوة بالطواحين وغلتها هم البشر ” هم في دوران وتغير دائمين ، وغلة هذه الطواحين هي البشر ” يبدع خاني في الوصف والتشبيه ويغلق التفسير أمام أي تفسير شائق .
(( إن انطفأت النار فالهواء هواء
وإن انقطع الماء فالهباء هباء
الأفلاك كالطواحين
هي في دوران وتغير دائمين
وغلة هذه الطواحين هي البشر
الذين سينطمرون في التراب الدقيق ))
هذا الخلط الناجم من فعالية ونشاط العناصر الأربعة ” الماء والتراب والنار والهواء ” تطبيق نمط من التحليل الفلسفي والذي يمكن إن يصلح لأي زمن كان والذي يعتبر تحليله جمالياً أمراً جوهرياً بالنسبة لتحديد فاعلية ونشاط العناصر نظراً لأنه يربط حال الإنسان بحالات حقيقية وفي الوقت ذاته يفرض مضمون الصورة والتي تعتبر القصة أداتها والتي تسهم في آخر المطاف بتفسيرات بالغة الرؤية الفكرية والجمالية والفلسفية والواقعية ومن المؤكد حب خاني ليس ذاتياً خالصاً خاصة بعد مضمون صوره وأدواته وتشبيهاته المجازية ” القصب ،الناي ،القلم ،الخطوط ،الحسناوات ،الماء ،والتراب ،والنار والهواء “فحبه الحقيقي يدل على منفعة البشر ونقل المعرفة والرؤى والمضمون الفكري والجمالي إليهم حينما تكون ” مم وزين ” رؤية تفرض سطوتها وملامحها ومن خلال إصراره على وجودها الضروري التي تحتل مكان الصدارة في المجتمع ، وإمكانية خضوع معرفته الواسعة الفكرية والجمالية والفلسفية والصوفية والقومية مكان الصدارة أيضاً لذا يعتبر خاني من أكبر مفكري عصره بين الكرد وأكثرهم علماً وأدباً ومعرفة .
*****************************************
أحمد الخاني
– أشهر شاعر كردي على الإطلاق وأعلاهم شاناً وسيرة وذكراً بين مختلف الشعراء الكرد
– ولد في عام 1651م في قرية خان في منطقة هكاري كردستان
– درس في المساجد كأطفال ذلك العصر وجلس في حلقات الدروس المختلفة ليدرس كتب الشريعة واللغة والبيان والبديع والمنطق والبلاغة ودرس في المدرسة المرادية ببايزيد ثم ذهب إلى أورفة واخلاط وبدليس ومنطقة بوتان ومنطقة بادينان وحتى إسطنبول ووصل في رحلته العلمية إلى بلاد الشام ومصر .
– مؤسس الشعر القومي الكبير ، وصاحب المدرسة القومية الكبيرة في ميدان الشعر الكردي
– بعد رحلته العلمية الطويلة استقر في بايزيد ليعيش فيها ويقوم بالتدريس وينصرف للبحث والتأليف وكتابة الشعر .
– مؤلفاته :
1 . قاموس نويهار : وهو قاموس عربي كردي ألفه الشاعر خاني شعراً في عام 1683م من أجل تمكين الطلاب الكرد من فهم وتعلم اللغة العربية لغة القرآن وطبع القاموس عدة طبعات ومنها في تركيا والعراق .
2 . مه م وزين : ملحمته الرائعة الذائعة الصيت وهي فن راقي للقصة الفولوكلورية ” مه مي ئالان ” التي تفنن الشاعر خاني في صياغتها شعراً وافرغ فيها كل ما يحمله من عقل وفكر وفلسفة وتصوف وفن وشعور قومي جياش بحيث أصبحت اسماً مقروناً مع اسم خاني وقد قورنت بقصة الحب العنيف لقصة ” روميو وجوليت ” لشكسبير في الأدب الانكليزي وطبعت عدة طبعات في العراق وتركيا والشام وموسكو وإيران وباريس وترجمت إلى اللغة الانكليزية من قبل الأستاذ الكبير صلاح الدين محمد سعد الله .
3 . عقيدة الإيمان : وهي عبارة عن 72 رباعية شعرية تعني بالدين الإسلامي والعقيدة وهي ذات طبعات عديدة .
4 . مجموعة متفرقة من القصائد الشعرية : جمعها الأستاذ إسماعيل بادي في كتاب مستقل عام 1996م ” من قصائد أحمد خاني – دهوك مطبعة هاوار 1996م .
– نشرت وكتبت عنه عدة أبحاث ودراسات عن فكره وفلسفته وتصوفه وحياته وشعره القومي .
– توفي عام 1707م في منطقة بايزيد .
***************************************