الخميس, مارس 28, 2024
القسم الثقافي

“اعترافات فصامي” لعادل نصّار

دفءٌ يتسع للجروح مثلما يتسع للحب 

أحمد ديبو

لا يحتاج عادل نصّار إلى الكثير من القول ليثبت شعريته، أدواته الضئيلة تكفي لصنع بيت أوّل للكتابة.

هذا التواضع، تواضع العيش والتصرف ومعجمها، يرفع الأعمدة ويثبّت الجدران والنوافذ كي يكون السقف متماسكاً والإقامة ممكنة.

إيماءات لحظات ومشاعر تشبه الطعام العزيز –الخبز والزيتون-

من شأنها أن تجعل “الاعترافات” (“اعترافات فصامي”، منشورات إكس بيروت) أدلة مقنعة لإقامة البرهان.

هو العيش نفسه ضئيل إلى هذا الحد، صامت، منسحق، هي النهارات والليالي، الأوجاع والأحلام، ومعها أسراب الأشياء والكائنات التي يمكن استخدامها، تفسح بالمجال أمام الشعر ليأخذ مجراه.

وإذا قيل إنها “اعترافات” فهي خجولة وتنأى عن الثرثرة، كحال العين الثاقبة إذا نظرت، أو كحال الشجرة إذا أعربت عن مشاعر خافتة.

ليس من قولٍ كثير في “الاعترافات”، يكفي هذا المرء المختلي بعيشه، يكفيه أن يختلي بلغته كي تكون على إحساس بأنها تستطيع ألا تجرح الفراغ.

هذه الصفة تسري في الأسطر سرياناً لطيفاً ومريراً، كجمراتٍ حارقة تحت الرماد، هي توحي بالمحو لكنها تشيع في الصفحات دفء الكينونة.

هو الدفء الذي يقيم نوعاً من الزواج بين العيش وقوله الذي يعبر كالسارق. وهو دفء يتسع للجروح، وللحظات الهاربة، مثلما يتسع أيضاً وأيضاً للسخرية التي لا ترفع صوتها بل تكتفي بأن ترسل نظرات كأنها صامتة.

لأجل هذه الأسباب، يستطيع كتاب كهذا، وإن يكن يزعم أن الاعترافات هي “اعترافات فصامي”، أن يعرّج على الحقائق والوقت والرغبات المدفونة تحت الصقيع، لكي يمنحها فرصة النمو والخروج إلى الحرارة أو إلى الضوء الخافت.

هنا عتمة ممزوجة بما يجعل البصر قادراً على الإنصات، هنا كلمات تعترف بقدر ما تكون الحاجة إلى الاعتراف كي تظل الكلمات واعدة.

هنا لا وقت للموت، يقول الشاعر ” فعملي يستغرقني، من يدفع قسط المدرسة وايجار غرفتي؟” (صفحة 40).

هذا الاستغراق في العمل، أو في صمت اللغة، يصنع بيتاً خارج المكان، وينسج حياة خارج الحياة.

وإذا كان الأمر هكذا، فلا بد أن يكون الاستغراق “الشعري” قادراً على محو ثرثرة العالم، وإن يكن الثمن إصابة الشاعر بالبكم (صفحة 55).

لا حاجة إلى الكلام في هذا المقام، لا حاجة إلى صوت، الكل يعرف أن القول في “الاعترافات” يكتفي في البوح بما لا يفسد علاقته بالسرّ، كأن شيئاً ما يشبه مرض الأمل (صفحة 41).

كأن شيئاً ما يحصل في الفراغ (صفحة 45)، كأن شيئاً ما يسيل على الضفة لا في المجرى، يتحرّك على الهامش لا في المتن، وهذا أكيد ما دام الشاعر “سحابة صيف” فحسب (صفحة 19)، وما دامت وحدته القاتلة هي الارتباط الوثيق المتاح.

شيءٌ كهذا يصنع نوعاً خاصاً من الرفقة الأليمة، ثم يحرر الفصام من القدرية ويجعل “إدمان الحياة” هو القدر (صفحة 37).

أمّا الوثيقة، وثيقة كون الشاعر فصامياً، فليست إثباتاً لشيء.

إنها محض برهان يؤكد الحزن المقيم في لحم الهامش، مثلما يؤكد الهزيمة، على أن الهزيمة تثبت الحب ولا تتنكر له.

هو حبّ بطله شخص “مهمل كحائط للبول”، “كزاوية نفايات” (ص 4).

لكنه حب يكافح من أجل استعادة الروح… بابتسامة، وإن يكون الثمن باهظاً: كأن تقرر امرأة “ذات يوم أن تمحوني من حياتها” فلا يبقى للشاعر من أثر “إلا في قاموس نفوس البقاع الغربي” (صفحة 47).

رغم هذا كلّه، ثمة في الكتاب ما يدفع الشاعر إلى تبديد الحياة بابتسامة.

هو الحلم الذي لا يمكن الإحاطة به (صفحة 31)، لكتّه إذ يفتح النافذة ليطيّر عصفوراً مبتسماً، فإنه يظل صامتاً، وهذا ما يحفظ للاعترافات أن تظل محض تملّص ملتبس، لكنه مفتوح على غواية السر ومراراته.

هي رحلة عيش، رحلة صامته وضئيلة، لكنّها تُضيء قنديلاً لوحشة الليل والنّهار.

هذا لأنّها مدعاة لرصد “اعترافات” تسطّرها “الكتابة” ولا يقولها القول (صفحة 32).

وهذا لا يكون إلا عندما تكون الرحلة قد انتهت.

إنّه لأمرٌ آخر للشعر، وبعض براهينه لا يحتاج إلى وثيقة أو إثبات.

​الثقافة – صحيفة روناهي