الأحد, مايو 19, 2024

جوان ديبو: طالبان في كردستان

آراء

لفت نظري خلال الأيام القليلة الماضية انعقاد مناسبتين في مكانين مختلفين في الشرق الأوسط ليسا بعيدين كثيرا عن بعضهما البعض جغرافيا، كما يجمع بينهما أيضا بعض القيم كالدين والمذهب.

الحدث الأول كان في المملكة العربية السعودية وهي الدورة الرابعة من جوائز “جوي أووردز” بالعاصمة الرياض من قبل الهيئة العامة للترفيه تماشيا مع رؤية المملكة 2030. وقد حضرت الحدث الضخم مجموعة من نجوم التمثيل والغناء والرياضة على المستويين العربي والعالمي.

والحدث الثاني كان مهرجان “تاجى زيرين” أو “التاج الذهبي” في أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق حيث تم تكريم 3000 فتاة لمجرد اتخاذهن القرار بارتداء الحجاب أو ما يسمّى باللباس الشرعي. والجهة المنظمة للحدث هي “منظمة التنمية لطلبة كردستان” وهي تابعة للاتحاد الإسلامي الكردستاني الذي يعتبر فرع الإخوان المسلمين الكردي وبموافقة واستحسان سلطات الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في أربيل.

الحدثان لهما دلالات عميقة على البيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية الحاضنة ومؤشرات حول مدى وقدرة القيادة السياسية في المكانين على فهم وتقييم المرحلة الراهنة والتحديات المستقبلية والقابلية والاستطاعة على التغيير من أجل المصالحة مع روح العصر، بغض النظر عمّا إذا كنا من المنبهرين بهذا العصر أو من الناقمين عليه، وبالتالي ضمان الوجود والبقاء والاستمرارية على الأقل مرحليا ضمن نظام الغاب الدولي الفوضوي.

◙ ما تقوم به تيارات الإسلام السياسي في الإقليم المضطرب وبرعاية وإشراف سلطات الإقليم ليس سوى إيذان بقرب ظهور طالبان كردي في كردستان

الفارق الرئيسي بين التجربتين يتمحور حول النقطة التالية: السعودية بقيادة الأمير محمد بن سلمان وضعت نصب أعينها رؤية 2030. والرؤية هنا تعني الأهداف المتوخاة والمرسومة وهذا بدوره يستلزم وجود خطة وإستراتيجية وقبل هذا وذاك التحلي بالمعرفة والإرادة والرغبة.

وفي غضون عدة سنوات فقط منذ أن أصبح الأمير محمد بن سلمان وليا للعهد ورئيسا للوزراء ورئيس مجلس الاقتصاد والتنمية فقد أحدث نقلة نوعية في الاقتصاد السعودي، كما كانت البصمة واضحة أيضا على المجتمع السعودي المحافظ من خلال تنظيم وتفعيل حركة ثقافية وفنية وترفيهية منظمة وهادفة لتحقيق الانفتاح.

ولم تكن بداية مسيرة التغيير سهلة لا بل كانت وما زالت صعبة ومعقدة ومحفوفة بالمخاطر وكأن الأمير محمد بن سلمان رائد الإصلاح والتغيير والتحديث في السعودية يمشي وسط حقل من الألغام، لكن النتائج الأولية أثبتت أن المحاولة الناجحة التي خاضها ويخوضها الأمير الشاب كانت وما زالت تستحق المجازفة.

في المقابل، لا يمتلك القائمون على الحكم في أربيل والسليمانية رؤية حتى ولو كانت ضبابية حول مستقبل الإقليم الذي يعاني الانقسام الإداري والاستقطاب الحزبي والعشائري والعوائلي والمناطقي الحاد والمزمن والمحاط بعدة دول غير صديقة، هذا الاستقطاب الذي تعمّق وتوسّع أكثر منذ تولي الحزبين الكرديين مقاليد السلطة في الإقليم في 1991.

وبدلا من الانتقال بالإقليم إلى مرحلة جديدة من حيث الإدارة والاقتصاد والصحة والتعليم وتفعيل المؤسسات، نشاهد العكس تماما حيث ما زال هناك انقسام إداري وسياسي عميق بين أربيل والسليمانية، والفساد الحزبي والإداري والمالي من الأعلى إلى الأسفل في الأوج، والاقتصاد مرهون بأنقرة وطهران والاستثمار أصبح حكرا على العاصمتين اللتين لا تكنان الود للإقليم. والتبعية الاقتصادية والاستثمارية والتجارية تؤدي شيئا فشيئا إلى التبعية السياسية ومصادرة القرار الوطني المستقل أو على الأقل التأثير عليه.

السعودية بقيادة الأمير محمد بن سلمان ومن خلال مهرجان “جوي أووردز” وغيره من النشاطات الثقافية والفنية والترفيهية وما يستتبع ذلك من تأثير جوهري وتدريجي على المجتمع السعودي، وكذلك من خلال التغييرات البنيوية في الاقتصاد السعودي استنادا إلى خطة استشراف مستقبل المملكة ما بعد النفط، تحاول جاهدة إعلان القطيعة الهادئة والهادفة والمنظمة مع الكثير من التراث وتهشيم قيود الماضي للانفكاك من إساره.

بينما تعمل قيادة إقليم كردستان عمليا ومن خلال السماح لمثل هذه النشاطات المشبوهة والغريبة وغير الضرورية إلى العودة إلى الماضي أو التقدم إلى الوراء أو في أفضل الأحوال المراوحة في المكان التي تعني عمليا التأخر المكلف والمؤلم. والتفسير الوحيد هنا لسماح الحزبين الحاكمين “العلمانيين والليبراليين” حسب ادعاءاتهما لانعقاد مثل هذه النشاطات المخجلة هو قول ميكافيللي بهذا الصدد “الدين ضروري للحكومة لا لخدمة الفضيلة وإنما لتمكين الحكومة من السيطرة على الشعب”.

إن مثل هذه النشاطات المغلّفة شكليا بالطابع الاجتماعي والثقافي والمسيّسة ضمنيا والمدعومة من جهات إقليمية تهدف إلى تجهيل الناس للقدرة على قيادتهم والسيطرة عليهم وإلى التيه الجماعي والفوضى في الأولويات، أو بالأحرى إهمال وضع الأولويات لدى القائمين على التخطيط والتنفيذ في الإقليم. وانتفاء الأولويات يعكس التخبط والعجز عن فهم الحاضر وبالتالي انعدام الرؤية المستقبلية.

◙ المسألة باختصار هي أن السعودية بقيادة الأمير محمد بن سلمان تمتلك مسارا وبوصلة تهتدي بهما، لكن إقليم كردستان بقيادة الحزبين الكرديين “حدك” (الحزب الديمقراطي) و”أوك” (الاتحاد الوطني) لا يمتلك مسارا للبناء

إذا بحثنا عن مناسبات مماثلة في أكثر من 57 دولة إسلامية، فمن الصعب جداً إن لم يكن من المستحيل العثور على شيء مشابه وبهذه الطريقة التي تضفي على الحدث طابعاً رسمياً وإعلامياً ومجتمعياً فيه الكثير من التحدي والتبجح والفظاظة. والسؤال هنا: لماذا إذن يتفرد الإقليم بهذا الهراء؟ هل فكّر قادة الإقليم بالانطباع الذي قد يكّونه الرأي العام في الغرب والشرق عموما حول الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في الإقليم؟ هل سعي الإقليم نحو استقلال يتماشى مع إبراز الهوية الإسلامية للإقليم على حساب طمس الهويات والخصال الأخرى.

المسألة هنا لا تتعلق بالحريات الدينية بقدر ما تتعلق بتمييع الحريات وبإظهار إقليم كردستان عن سابق نية وخطة وعزم وكأنه يعيش في القرون الوسطى وتحت تأثير مخدرات تيارات الإسلام السياسي الهادفة إلى إعطاب العقل الكردي أكثر مما هو معطب ومعطل بالأساس.

ويبقى السؤال: لماذا إضفاء الطابع الرسمي وهذه الهالة الإعلامية والسياسية والمجتمعية الهائلة على هكذا حدث؟ هل هؤلاء الفتيات قمن مثلاً باختراعات وابتكارات علمية لكي يتم تكريمهن بهذا الشكل؟ هل قمن بإنتاجات نظرية وفكرية وأدبية لكي ينظم أقوى تيار للإسلام السياسي في إقليم كردستان مهرجانا خاصا من أجل تكريمهن على مرأى ومسمع وتحت رعاية وإشراف سلطات الإقليم؟

هل يحتفل أحد مثلا أو يرصد حركة الإقبال أو الإقلاع على الكنائس في الغرب أو في الشرق؟ وإذا كنا تتحدث عن الحريات في سياقها القانوني والمنطقي في الإقليم، هل يمكن السماح مثلا للذين يغيّرون دياناتهم أو للفتيات اللاتي تركن الحجاب بالاحتفال؟

عند رصد مظاهر التدين المبالغ فيها في الإقليم وباستحسان ورضا من حكومة الإقليم بالإضافة إلى تكاثر حركات الإسلام السياسي التي باتت تستحوذ على حوالي 20 مقعدا من مقاعد برلمان الإقليم البالغ عددها حتى الآن 111 مقعدا، عندئذ تتلاشى أسباب الاندهاش وراء تنظيم هكذا فعاليات ونشاطات.

حسب وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في الإقليم فإنه يوجد حوالي 6000 مسجد في طول الإقليم وعرضه. وبذلك يضاهي عدد المساجد في إقليم كردستان أعداد جميع المساجد في الكويت والإمارات وقطر والبحرين مجتمعة. حوالي 700 مسجد منها تم بناؤها من قبل الرابطة الإسلامية التي يترأسها علي القره داغي، الرجل المدلل لدى تركيا وقطر والمدافع الشرس عن الإخوان المسلمين والذي يمتلك الجنسية القطرية.

والصادم هنا، وحسب تصريح سابق أدلى به مريوان النقشبندي سنة 2016 وكان يشغل آنذاك منصبا مهما في وزارة الأوقاف الدينية في حكومة الإقليم، فإن أكثر من 5000 من هذه المساجد قد تم بناؤها في ظل الإدارة الكردية “العلمانية” الحالية، أي بعد انتفاضة آذار 1991.

والسؤال هنا: إذا كانت وزارة الأوقاف في الإقليم هي التي تموّل بناء هذه المساجد فهذا يعني أن ميزانية الوزارة تفوق أضعافا مضاعفة ميزانية وزارات الصحة والتعليم والبيشمركة؟ عندها سنقول تلك مصيبة. وإذا افترضنا بأن التمويل يأتي من الخارج ولغايات سياسية دفينة بعيدة المدى، فعندها سنقول المصيبة أعظم.

المسألة باختصار هي أن السعودية بقيادة الأمير محمد بن سلمان تمتلك مسارا وبوصلة تهتدي بهما، لكن إقليم كردستان بقيادة الحزبين الكرديين “حدك” (الحزب الديمقراطي) و”أوك” (الاتحاد الوطني) لا يمتلك مسارا للبناء وليست لديه بوصلة بالأساس لأن البناء الحديث والمعاصر يتطلب التسلح بالمعرفة والإرادة والرغبة والوعي والإستراتيجية الواضحة ليكون أكثر صلابة ومتانة للتمكن من الصمود والبقاء في ظل الأعاصير والعواصف التي تمتاز بها العلاقات والسياسات الدولية، هذه العناصر التي لطالما افتقدها الكُرد خلال ماضيهم وحاضرهم.

◙ في غضون عدة سنوات فقط منذ أن أصبح الأمير محمد بن سلمان وليا للعهد ورئيسا للوزراء ورئيس مجلس الاقتصاد والتنمية فقد أحدث نقلة نوعية في الاقتصاد السعودي

يبدو أن التاريخ يعيد نفسه مرات ومرات بالنسبة إلى الكُرد ضحايا الأنا قبل أن يكونوا ضحايا الآخر، فعندما أقرأ عن ذكاء ودهاء الشريف حسين بن علي الذي نسق مع الإنجليز أثناء الحرب العالمية الأولى ضد العثمانيين لنيل استقلال العرب، أقرأ بالمقابل عن غباء وسذاجة الكردي محمود الحفيد الذي أعلن الجهاد ضد الإنجليز في العراق وضد الروس في المناطق الكردية في إيران والذي كان متأرجحا في مواقفه بين الميل نحو الأتراك تارة ومغازلة الفرس تارة أخرى وأخفق في التعامل دبلوماسيا وسياسيا مع الإنجليز والفرنسيين الذين كانوا يتحكمون بخيوط لعبة الأمم في ذلك الوقت لتحقيق المقاصد الكردية في الاستقلال.

من الواضح أن الـ”ستان” التي تجمع بين كردستان وأفغانستان ليست من قبيل المصادفة، وما تقوم به تيارات الإسلام السياسي في الإقليم المضطرب وبرعاية وإشراف سلطات الإقليم ليس سوى إيذان بقرب ظهور طالبان كردي في كردستان.

علما أن الإقليم قد شهد ولادة حركات إسلامية راديكالية أكثر تطرفا من حركة طالبان وزعيمها الروحي الملا عمر مثل جماعة أنصار الإسلام السلفية الجهادية بقيادة ملا كريكار المدعومة من طهران وجماعة جند الإسلام التابعة للقاعدة. وفي 2014 وأثناء ظهور وتمدد تنظيم داعش التحق العشرات من أنصار هذه الجماعات الإسلامية الكردية بهذا التنظيم الذي قتل الآلاف من البيشمركة في كردستان العراق والآلاف من المقاتلين الكُرد في سوريا.

ما يحتاجه إقليم كردستان العراق هو ثورة ثقافية شاملة على غرار الثورة الثقافية والمفاهيمية التي يقوم بها الأمير محمد بن سلمان في السعودية، وليس السماح بانعقاد مهرجانات تكرم فيها الفتيات اللاتي قررن ارتداء الحجاب. ما يحتاجه قادة ونخب الإقليم هو “التفكير في العقل المستقيل بدلا من التفكير بالعقل” كما قال المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري في سياق بحثه المضني عن بنية العقل العربي وتكوينه.

 

*جوان ديبو

كاتب سوري كردي

المصدر: العرب اللندنية

شارك هذا الموضوع على