الجمعة, مايو 17, 2024

حسين شاويش: آراء حول الأمة الديمقراطية

آراء

تحولت الدولة والأمة القوموية بأشكالها المختلفة في الشرق الأوسط إلى عقبة أساسية أمام السلم الاجتماعي والتعايش المشترك فيما بين مكوناتها المتنوعة والمتعددة. هذه المؤسسة السرطانية استخدمت ومازالت تستخدم كل القيم الاجتماعية المقدّسة لجذب عواطف الجماهير بغية إطالة عمرها على الرغم من تفسخها وتحولها إلى سد أمام التطور الاجتماعي الطبيعي في المنطقة. استخدام الغطاء الديني والمذهبي والشعارات الوطنية لاستنفار الجماهير وإشباعها بالعواطف الشوفينية والعنصرية والدينية المتطرفة ضد المجموعات والمكونات الأخرى المختلفة عنها من ناحية اللغة والثقافة والمذهب والدين، طبعت المنطقة بطابعها منذ 1800 وحتى الآن بشكل خاص. هذه الصيغة الأكثر دمويةً وفاشيةً لمؤسسة الدولة في الشرق الأوسط، تطورت وترسخت بدعم من الاستعمار الغربي الحديث والقديم على قاعدة اللغة الواحدة والثقافة الواحدة والدين الواحد والمذهب الواحد والأمة الواحدة والعَلَم الواحد والملك الإله (فرعون، نمرود، سلطان، أمير، رئيس) الواحد الأمة التي لا تفكر بوجودها وتطورها إلا مع هذه المؤسسة السرطانية الفتاكة، هي التي وصلت إلى درجة مفعول به في الجملة الإعرابية السلطوية لهذه المؤسسة. مفعول به لفاعل يمارس كل أشكال العبودية والرقّ تحت اسم الشرعية والدفاع عن الوطن أو المجتمع. ولكن في حقيقة الأمر لكي يبقى فاعلاً وسيداً وإلهاً وذاتاً سلطوية ومثالياً خالداً إلى الأبد، يتم إثارة كل الأحاسيس والمشاعر العدائية وكأن شعوب المنطقة ومكوناتها مجبرة على الصراع ضد بعضها البعض لكي تستمر في الوجود بدلاً من الانسجام والتعايش السلمي المشترك وقبول البعض باختلافاتهم كأمر طبيعي قبل ظهور هذه المؤسسة الدولتية الفتاكة. قبل كل شيء شعوب وأمم هذه المنطقة غير مضطرة إلى قبول هذه العبودية لأنها تتمكن من العيش كأمم ديمقراطية تدير نفسها بدون سلطة الدولة المركزية والاستبدادية. لأن الدولة محتاجة إلى المجتمع وليس العكس، لأن المجتمع موجود قبل الدولة بعشرات الآلاف من السنين، لأن عمر الدولة لا يشكل اثنان بالمئة من عمر المجتمع البشري برمته. لأن المجتمع هو الأساس بينما السلطة والدولة أمرٌ طارىء وغير ضروري في حياة البشرية. لأن الإدارة الاجتماعية موجودة قبل ظهور مؤسسة السلطة والدولة بآلاف السنين وبشكل طبيعي، لأن مؤسسة السلطة والدولة هي مصدر المشاكل وكل الأمراض الاجتماعية بدءاً من الاستغلال والاضطهاد والتحكم والبطالة والجوع والفقر مروراً بالحروب الفتاكة والصراعات الهدّامة وصولاً إلى تلوث البيئة وتحول الإنسان إلى سلعة وخصوصاً المرأة!. إذاً الأمة التي ربطت مصيرها وقدرها بمؤسسة سلطوية ودولتية استبدادية هي تلك الأمة التي تحولت إلى جموع من القطيع لا تؤمن بطاقاتها وقوتها ولا تثق بإرادتها وإدارتها الذاتية. مثل هذه الأمة هي أمة الدولة القومية وهي موجودة بذاتها وليس لذاتها. مع العلم بأن إمكانيات المجتمع وبالتالي الأمة في إدارة نفسها لها ميراث تاريخي عريق يصل إلى عشرات الآلاف من السنين قبل ظهور الدولة والسلطة. كما أن مؤسسة الدولة سلبت واغتصبت الإدارة الاجتماعية الطبيعية وعلى أساسها أصبحت مؤسسة سلطوية فوقية تتحكم بالبشر والطبيعة وتخفي نفسها تحت غطاء الشرعية الحقوقية والقانونية وحتى الإلهية المقدسة. الأمة التي تتباهى بالقوة والاستبداد ورموزها الدموية هي تلك التي تعيش حالة نفسية مرضية شيزوفرينية، لأنها ترى نفسها قزماً ولا شيء أمام السلطة والدولة بينما تهدد المكونات والأمم الأخرى وتتباهى بالحروب والقتل بدلاً من السلم والوئام. مثل هذه الأمة لا تعبد الإله في السماء، بل تعبد هذه الدولة القومية الدموية التي جعلت من نفسها إلهاً على الأرض. هذا الإله الجديد طَوَرَ لنفسه دين جديد اسمه القوموية.

القوموية كدين جديد تحول إلى مرض في الشرق الأوسط، وما زاد الطين بلةً هو التزاوج فيما بين القوموية والمذهب والدين والتداخل فيما بينهما. الحركات القوموية مثل البعث والناصرية والأردوغانية الطورانية والصهيونية والشيعوية الإيرانية تستحدم الدين والمذهب بقدر حاجتها إلى ذلك للاستمرار في السلطة، بينما التيارات السلفية (مثل القاعدة وداعش والنصرة ….وإلخ) فقد دخلت في انسجام ليس له مثيل سابقاً مع هذه التيارات القوموية وخصوصاً مع البعث (العراقي) والأردوغانية حسب حاجتها في فتح ساحات جديدة لها. كل هذه الأيديولوجيات منسجمة مع بعضها البعض ومشتركة في نفس الاستراتيجية والهدف هو الوصول إلى كرسي السلطة على الرغم من وجود الاختلافات والتباينات والتناقضات التكتيكية المؤقتة فيما بينها.

أمام هذه اللوحة السوداء فما هو بديل مصطلح الأمة القومية أو الأمة المستندة إلى الدولة والسلطة؟ ما هو البديل عن الأمة التي تحولت إلى جموع من العبيد أو الرق أو أناس عاطلين عن العمل أو يعملون كعبيد عصريين تحت اسم العامل أو الفلاح أو المستخدم أو الموظف؟ لاشك بأن المنطقة والأمم كلها تحتاج إلى الديمقراطية الحقيقية أو المباشرة! مصطلح الأمة الديمقراطية هو البديل المناسب والعصري والوحيد لكل القضايا الاجتماعية في هذه المنطقة. لأن هذه الجغرافية كانت تعيش ضمن مناخ الديمقراطية الطبيعية قبل الظهور الدولة بآلاف السنين وقبل ظهور الديمقراطية اليونانية (الإغريقية) وكانت تدير نفسها عن طريق الإدارة الذاتية والذاكرة الاجتماعية السياسية والأخلاقية ولم تكن المنطقة في حالة الصراع على الحدود والأحجار والأنهار والبترول ولم تكن المنطقة منقسمة على نفسها حسب المحاور الدولية والصراعات الإقليمية.

الأمة الديمقراطية حسب تعبير السيد عبد الله أوجلان قائد حركة حرية كردستان هي كالتالي: « هي تلك الأمة التي لا تكتفي بشراكة ذهنية وثقافية فحسب، بل وتوحد كافة مقوماتها في ظل المؤسسات الديمقراطية شبه المستقلة، وتديرها. هذا هو الجانب المعين فيها. أي أن طراز الإدارة الديمقراطية وشبه المستقلة، هو الشرط الرئيسي في لائحة صيرورة الأمة الديمقراطية. وهي بجانبها هذا البديل للدولة القومية. فالإدارة الديمقراطية بدلاً من حكم الدولة، فرصةً عظيمة للحرية والمساواة» (مانيفستو الحضارة الديمقراطية- المجلد الخامس- الطبعة العربية الصفحة 52-53.) نعم الأمة هي شكل لتنظيم المجتمع بعد مرحلة القبيلة والعشيرة وحتى القوم، ولكنها غير متجذر بل يبقى الاشتراك في الثقافة والفكر إلى حدٍ ما هو العامل الاساسي، بينما الاشتراك المؤسساتي العملي، فهو في الدرجة الثانية وليس بالعامل الحاسم. بينما في حالة الأمة الديمقراطية فإن الاشتراك في المؤسسات وإدارتها بشكل جماعي على الرغم من الاختلاف في اللون والجنس والمذهب والدين واللغة والثقافة، هو العامل الحاسم. فكلما تمكن المجتمع من إدارة نفسه بنفسه عن طريق مؤسساته شبه المستقلة، كلما اقترب أكثر فأكثر من مفهوم الأمة الديمقراطية. من هذا المنطلق يجب أن نقول بأن هذه الأمة هي ضمانة لعملية «الوحدة في التنوع» ضمن إطار وحدات الأمم الديمقراطية الشرق أوسطية بدلاً من مشروع الشرق الأوسط الكبير المستورد! فلماذا تمكنت الأمم الأوربية إلى حدٍ ما رغم النواقص والعيوب الموجودة من الوصول إلى صيغة قريبة من صيغة الأمم الديمقراطية ضمن إطار الاتحاد الأوروبي بينما الأمم الشرق أوسطية تملك مقومات ثقافية وذهنية واقتصادية واجتماعية وثقافية أكثر للوصول إلى هذه الصيغة!؟ المشكلة تكمن في عدم تنظيم المجتمع وتوعيته على قاعدة المؤسسات الديمقراطية الواسعة وعلى كل المستويات لاجتياز البنى السلطوية المرضية والذهنيات القوموية والمعادية للديمقراطية وحقيقة المجتمع وطبيعته. يعتبر قائد حركة حرية كردستان السيد عبد الله أوجلان أول مفكر وفيلسوف شرق أوسطي يدعو إلى قيام هذا المشروع كحل لكل القضايا المعقدة مثل القضية الكردية والفلسطينية وما شابه. الإدارة المحلية الديمقراطية بدلاً من الإدارات المركزية القمعية هي الأساس في هذا المشروع بدلاً من سلطة الوالي وقائمقام ومدير الناحية … وما شابه. الإدارة المحلية تستند على المجالس والتعاونيات الاجتماعية في الأحياء والقرى والبلدان والمدن… وكل الوحدات السكنية. مثال على ذلك، بدلاً من إدارة مدينة حلب وريفها من قبل محافظ مرتبط بالشام، سوف يتم إدارة حلب وريفها عن طريق مجلس ومنسقية منبثقة عنها بعد انتخابات ديمقراطية محلية يشترك فيها كل المكونات دون تمييز على أساس اللون أو الجنس أو القومية أو الدين أو اللغة. الكل سوف يمارسون ثقافتهم ومعتقداتهم في إطار من الانسجام والوحدة ضمن التنوع والتعدد، المجتمع سوف ينظم نفسه من الأسفل، من أصغر وحدة سكنية حتى أكبر وحدة سكنية على عكس الدولة التي تنظم نفسها من الأعلى وتمارس السلطات من الأسفل. مشروع الأمة الديمقراطية يستند إلى الإدارة وليس السلطة، الإدارة تعني السياسة الديمقراطية الاجتماعية، بينما السلطة تعني التحكم والقمع وليس أكثر. السياسة الديمقراطية هي فن إدارة المجتمع لذاته بذاته وبقوته وطاقاته ولحل كل قضاياه السياسية الديمقراطية. يعني ممارسة المجتمع لحقوقه وواجباته والدفاع المشروع الذاتي عن نفسه بأفضل الأشكال المناسبة، يعني وصول المجتمع إلى حالة من الوعي والتعاون والتنظيم بحيث لا تستطيع كل الاستخبارات المعادية ودوائر الحرب الخاصة أن تلعب بذهنيتة أو تعكر أجواءه أو تحرّفه عن مصالحه الحقيقية. لأنه يملك القرار والإرادة والثقة بالنفس والأمل لذا لا يمكن شق صفوفه من قبل الثورة المضادة.

هناك من يدعي بأن هذا المشروع سوف يقسم الأوطان إلى مناطق متفرقة ودويلات وكيانات متنازعة. هذا الادعاء عار عن الصحة، والدليل على ذلك هو الاتحاد السويسري اللامركزي الذي يتمتع بمقاطعات ذات صلاحيات إدارية محلية متعددة ومتنوعة ومنسجمة مع بعضها البعض وذات قوميات وثقافات متعددة وتعيش مع بعضها البعض على قاعدة احترام المميزات والخصوصيات وقبول البعض. أصحاب هذا الادعاء يجب أن يطرحوا السؤال التالي: لماذا لم تتوحد المنطقة منذ ما يقارب مئة سنة تحت نير الأنظمة المركزية السلطوية؟ لماذا الآن كل من العراق وسوريا واليمن ولبنان وفلسطين وكردستان متفتتة ومنقسمة على بعضها البعض؟ الديمقراطية هو الاتحاد الطوعي، بينما المركزية السلطوية هو اتحاد إجباري السائر نحو الانقسام والتفتيت! من هذا المنطلق علينا أن نقول بأن الاتحاد السويسري وصلت إلى مستوى اتحاد طوعي بينما العراق وفلسطين واليمن تتفتت لأنها اتحاد إجباري قائم على إنكار وجود الآخرين وعدم قبولهم! مشروع الأمة الديمقراطية لا تهتم بالحدود القوموية المصطنعة والمرسومة على طاولة سايكس_ بيكو و لوزان، بل تهتم بالمجتمع وانشائه على جذوره وهويته الانسانية الحقيقة. لذا يجب أن نقول بأن هذا المشروع هو بنفس الوقت مشروع تنظيم المجتمع الديمقراطي والسياسي والأخلاقي وليس مشروع قومي أو وطني كلاسيكي بسيط. هناك اقلام قوموية وسلطوية تقول بأن الأمة الديمقراطية هو هدف كردي وكردستاني بحت، نقول لهم بأن العرب والفرس والترك يحتاجون إلى الديمقراطية مثلهم مثل الكرد. لأنهم ليسوا احراراً ولا يتمتعون بحقوق المواطنة الحرة حسب موازين العصر. ولأن الحرية والمواطنة الحرة من إحدى أهم معايير الديمقراطية، فأن كل الأمم والشعوب في المنطقة يحتاجون إليها حاجةً ماسة في هذه الظروف بالذات وبأقصى سرعة. لأن الفوضى السائد في المنطقة طولاً وعرضاً يهدد الوجود الاجتماعي برمته. الديمقراطية قضية تهم الجميع لأنها تجلب الحلول المناسبة لكل القضايا المرتبطة بالجميع. هدم الدول وبناء دول جديدة لا تحل اية مشكلة بل على العكس تزيد من تعقيد القضايا أكثر فأكثر وتزيد من حدة الصرعات الدموية. هناك أكثر من عشرين دولة عربية تدعي بتمثيل المجتمع العربي، ولكن هل يوجد عشرين عربي يعيش حراً في وطنه؟ هناك عدة دول تدعي بأنها تمثل الثقافات التركية، ولكن هل يوجد حرية في ظل هذه الدول؟ الجواب كلا !.

إذاً ما هو الحل؟ الحل الوحيد هو الأمة الديمقراطية لا أكثر ولا أقل. إنكار الثقافات الأخرى واتباع سلوك الإبادة الجسدية والثقافية بحق الآخرين لا يجلب الحل ولا تجلب الحرية لصاحبها. العداء السافر للآخر مرتبط بشكل مباشر بذهنية السلطة والاستبداد التي حولت المجتمعات إلى عبيد وجواري.

تحقيق مشروع الأمة الديمقراطية أصعب بكثير من هدم دولة وبناء دولة جديدة، لأنها مرتبط ببناء الإنسان الفاعل الذي يملك الإدارة ويحقق ذاته ويلعب دوره ككائن اجتماعي طبيعي. مثلما تحقيق السلام أصعب من الحرب وعملية البناء أصعب بكثير من عملية الهدم، فإن بناء المجتمع على جذوره وهويته الطبيعية أصعب بكثير من هدم الدول وبناء الدول. عندما نقول بأن الأمة الديمقراطية هو الحل فإننا ندرك بأننا أمام مهمة صعبة جداً ولكنها ليست مستحيلة بل ضرورية وعاجلة أكثر من أي وقت مضى.

يؤكد السيد عبد الله أوجلان في المجلد الخامس من مانيفستو الحضارة الديمقراطية بأن مفهوم الأمة الديمقراطية تعبر عن الغنى والتنوع الموجود في طبيعة المجتمع البشري وترفض النمطية الاجتماعية أو النمطية الفردية التي تحاول الدول القومية فرضها على المجتمع عبر الفتشية الوطنية المرتبطة بالسوق الوطنية كملك للطبقات المسيطرة. لأن النمطية لا تمثل حقيقة الحياة الاجتماعية الغنية كحديقة تحوي في إطارها الآلاف من الورود والأزهار بدلاً من وردة واحدة وحيدة ذابلة. ليس فقط الأقوام بل حتى القبائل والعشائر أيضاً لها مكان في هذا المشروع. لذا يجب الإشارة بأن الدولة القومية والقوموية ومفهوم الأمة القومية، متناقضة مع تاريخ الشرق الأوسط وفسيفسائه وتنوعه الثقافي واللغوي. بينما الأمة الديمقراطية تنسجم مع هذا التاريخ وتعبر عن هوية كل المكونات والمجموعات الاجتماعية في المنطقة. الأمة الديمقراطية تثمن عالياً مفهوم الوطن كمكان لذاكرة الإنسان ومجتمعيته وثقافته، ولكنها لا ترى مبرراً في تحويل الوطن إلى قيمة مقدسة أكثر من المجتمع والفرد، لأن الوطن له معنى مقدس عندما يعيش عليه مجتمع فعّال وحر وفرد فاعل ونشيط وحر. بهذا المعنى الحرية الإنسانية هي أسمى هدف بالنسبة لمفهوم الأمة الديمقراطية كما أن المجتمع الديمقراطي والسياسي والأخلاقي هو أسمى حقيقة بالنسبة لمفهوم الأمة الديمقراطية.
“روناهي”

شارك هذا الموضوع على

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *