الأحد, مايو 19, 2024

علي بدرخان.. سليل الأمراء الأكراد الوفي للثقافة المصرية

القسم الثقافي

خالد إسماعيل

يقولون إن «مصر» قادرة على هضم «الزلط» وتمصير «الجن الأزرق»، ولكنهم يحصرون الهضم على المعدة، فيقولون «معدة المصرى تهضم الزلط» وهم يقصدون الفول باعتباره الأقرب لصورة الزلط الصغير، لكن «الهضم الحضارى» هو الصح،

والتمصير هو الفعل الذى جعل الثقافة المصرية خصبة، متعددة الروافد والمشارب والمنابع، ولو توقفنا أمام دعاة نقاء العرق الأقدم فى مصر، سوف نجد أن مصر، وإن سمحت بنقاء الأعراق، واختلاف الأديان، لم تسمح بالتصدع الثقافى، جميع من على أرض مصر يشتركون فى مظاهر عامة وعادات وسلوكيات وأزياء ويتبادلون المنفعة، فالمسيحيون يزورون السيد البدوى والمسلمون يزورون ديرا العدرا، والجميع يحملون السلاح للدفاع عن «الوطن»، وقلب مصر يتسع للمبدعين، من الأرمن والأكراد والأفارقة والباكستانيين، ومن حسن الحظ أن «صناعة السينما» أسسها «طلعت حرب» وهو من «عربان الشرقية» بمساعدة «أحمد بدرخان» وهو من «كردستان تركيا» ومن رموز هذه الصناعة محمد خان «الباكستانى»، الذى حصل على الجنسية المصرية قبل وفاته بسنوات قليلة، وقدم أهم الأفلام عن المجتمع المصرى قبل أن يصبح مصرى الجنسية، واليوم أنا أحتفل بذكرى ميلاد الفنان المخرج «على بدرخان» المولود فى 25 أبريل 1946

، وكان المفترض الاحتفال به فى «أبريل»، والمهم أننى أحب هذا الفنان النبيل، المتواضع، العميق الرؤية، وهو ابن المخرج الراحل «أحمد بدرخان» أحد مؤسسى «ستديو مصر» وهو الذى قام بدور مهم فى تخليد كفاح «مصطفى كامل» فى فيلم أنتجه بأمواله، وتعرض لمحنة مالية بسببه فى ظل «النظام الملكى» المعادى للنضال الوطنى والمتحالف مع الاحتلال البريطانى.

وبالمناسبة مصطفى كامل، شعلة الوطنية المصرية من قبيلة أمازيغية تسمى كتامة موطنها الأصلى فى المغرب العربى، وجاءت مع الفاطميين وأقامت فى الغربية والقاهرة»، وحماس «أحمد بدرخان» لتخليد الزعيم الوطنى «مصطفى كامل» يدخل ضمن الأدلة المؤكدة لقدرة «مصر» على تمصير كل وافد، والوافد هنا هو والد «أحمد بدرخان» وجاء من كردستان، وبالتحديد إمارة «بوطان» التى كانت تحت سيطرة جده الأمير الكردى القوى المعادى للدولة العثمانية، المتحالف مع «محمد على» مؤسس الدولة الحديثة فى مصر، وكان حضوره إلى مصر بعد هزيمته فى معركة مع الجيش العثمانى، واستقبله «محمد على» وأصبح «مدير بنى سويف» وأنجب «أحمد»، وعاشت العائلة فى حى القلعة بالقاهرة، وتشربت الروح الشعبية المصرية، وانتقلت هذه الروح إلى «على أحمد بدرخان» ليمضى على نهج والده المخرج الرائد، ويقدم لنا أفلاماً مصرية الجوهر، منها «الجوع» المأخوذ عن «الحرافيش» رائعة «نجيب محفوظ» و«الكرنك»، و«شفيقة ومتولى» وكانت «سعاد حسنى» هى «الجوهرة» التى نقلت مشاعره وحبه للحارة المصرية والقرية وكل ماهو أصيل وجميل، وبالمناسبة «سعاد حسنى» والدها «كردى» من أكراد سوريا، ووالدتها من «المنصورة» ومصر هى التى مصرت الجميع واحتلت قلوب الجميع، ونتمنى للفنان الكبير «على بدرخان» السعادة والعمر المديد.

فيلم شفيقة ومتولى قدم التاريخ الشعبى وارتقى بالحكاية الأصلية

فيلم «شفيقة ومتولى» يختلف عن قصة مقتل «شفيقة» بسكين أخيها «متولى» فى مدينة «أسيوط»، والاختلاف نابع من رؤى المجموعة المبدعة التى وقفت وراء هذا الفيلم الرائع، الذى أتيحت له عناصر النجاح، فالمخرج هو «على بدرخان» والسيناريست وكاتب الحوار هو الشاعر الكبير «صلاح جاهين» ومدير التصوير هو «عبدالحليم نصر» والممثلون هم «سعاد حسنى» ومعها «أحمد زكى» و«جميل راتب» و«عبدالوارث عسر» وفريق من الموهوبين الكبار «محمود عبدالعزيز» و«ملك الجمل» و«أحمد بدير» ولكن هذا الفريق ماكان له أن يحقق هذا النجاح لولا «الورق الحلو» وكان الزمن يسمح للورق أن يتكلم، فيفرض نفسه على الجميع، والورق عميق المعانى، فيه توظيف لحكاية «شفيقة ومتولى» وتحويل للحكاية من مجرد جريمة قتل وقعت فى صعيد مصر إلى ملحمة ورواية للتاريخ الشعبى، الذى لا يعترف به الحكام الغزاة، واللقطة الأولى فى هذا الفيلم، مجموعة من خيول «الغز» أو «العسكر المملوكى» تقتحم قرية بهدف جمع شبان للتجنيد الإجبارى أو «السخرة»، وتوالت المشاهد التى تصور القمع المملوكى للفلاحين، وهنا تظهر»شفيقة» وترجو «متولى» أن يهرب، حتى لا يسقط فى قبضة الغز، لكنه يرفض الهرب، ويصبح جنديا، ويعيش الحياة القاسية، مثله مثل آلاف الشبان، ومن المفيد للقارئ المشاهد أن نلفت نظره إلى وجود رغبة لدى فريق العمل فى تحويل الفيلم إلى وثيقة تاريخية، فالسخرة والضرب بالكرباج والتجويع والترهيب والسطو على البيوت، هو الأسلوب الذى مارسه «الغز» ضد الفلاحين على مدى التاريخ، ولم يرفع الظلم عن الفلاح غير الثورة العرابية التى ألغت «الضرب بالكرباج» وألغت تسخير الفلاحين، خلال المدة التى استطاعت خلالها «تحجيم» سلطة «الخديو توفيق»، واستطاعت أن ترفع الظلم عن فقراء الفلاحين، لكنها هزمت وقبض على قادتها، وظل الفلاح يعانى الهوان، حتى جاءت ثورة 23 يوليو 1952، فقضت على «الإقطاع» ومنحت الفلاحين حق التعليم وحق الصحة وحق امتلاك الأرض، وقضت على «الأرستقراطية» قضاء تاما، والجميل فى فيلم «شفيقة ومتولى» تقديمه «الفولكلور» الفلاحى، والفنون الشعبية الفلاحية، ومن باب الانصاف نقول إن «سعاد حسنى» منحت الجمال لهذا الفيلم، وكذلك الفنان «أحمد زكى» الذى وجد فى دور «متولى» تعويضاً عن فقدانه دور «إسماعيل» فى فيلم «الكرنك» الذى قدمه نور الشريف وهو من أخراج على بدرخان.

وحتى نرضى فضول القارئ نخبره بالحكاية الأصلية التى وظفها فريق عمل الفيلم، هى حكاية «شفيقة» الفتاة الصعيدية التى انحرفت وهربت من قرية «المجابرة» فى جرجا، إلى أسيوط، وكان شقيقها «متولى» عريفا فى الجيش، وعرف بانحرافها، فطلب من القائد إجازة، واستطاع بمعونة أصدقائه الوصول إلى «بيت الدعارة» الذى تعمل فيه، وقتلها، وكان الفنان «حفنى أحمد حسن» هو من جعل هذه الحكاية فى صورة موال قصصى، حقق شهرة واسعة ومازال الناس يعجبون به حتى يومنا هذا.

الحرافيش.. رائعة «نجيب محفوظ» التى خرج منها فيلم الجوع

الحرافيش هى «دُرَّة التاج» فى مشروع الكاتب الأكبر»نجيب محفوظ»، فيها كل تفاصيل عالمه الممتد فى رواياته من«زقاق المدق» إلى آخر قصة كتبها فى شيخوخته رحمه الله، وهذا العالم الثرى الذى يحتوى الثقافة الوطنية المصرية، أغرى «على بدرخان» فنهل منه فيلمه المشهور» الجوع» وهو الفيلم الذى يحكى قصة الفقراء والأغنياء والفتوة العادل والفتوة الظالم «البلطجى» وأبطاله «محمود عبدالعزيز» و«عبدالعزيز مخيون» و«سعاد حسنى» منحوا «السيناريو» من أرواحهم، وبثوا فيه الحياة، ولكن هذا العالم الموغل فى القدم، عالم «عاشور الناجى» الذى نجا من «الطاعون» أو «الكوليرا» فحمل لقب «الناجى»، ظل مستمراً فى قلوب الأجيال التالية، والرمز هنا، هو تحويل «عاشور» إلى معادل للجد الأول، أبو البشر «آدم» الذى جاء بأمر الله لعمارة الكون، وكذلك جاء «عاشور» إلى الحارة ليعمرها بعد خرابها، وموت ساكنيها بفعل الوباء، والوباء كان أمراً معتاداً فى حياة المصريين، وكان يداهمهم عقب موسم فيضان نهر النيل، وينتج عن تحلل جثث الحيوانات النافقة، وتحمله «الفئران» إلى البيوت، عبر»البراغيث»التى تستوطن هدوم الناس، حاملة الطاعون من شعور الفئران المصابة به، واختار «على بدرخان» حكاية «الجوع» وقبلها اختار حكاية «الكرنك» ليكون الفيلمان، تأريخاً لقصة كفاح الإنسان وحروبه المتواصلة من أجل الحياة، والفارق بين فيلم «الجوع» وفيلم «الكرنك» هو الفارق بين التقدم والتخلف، والفارق بين القوة الغاشمة الظاهرة التى لا تتخفى بخطاب أيديولوجى ناعم مُخدِّر، والقوة التى تغلف نفسها فى الوطنية والاشتراكية والحرية، وفى الفيلمين كان «على بدرخان» متوافقاً مع «نجيب محفوظ» فى الحرص على تقديم صورة صادقة للشعب المصرى وكفاحه ونضاله من أجل تحقيق قيمة العدل.

المصدر: ماسبيرو

شارك هذا الموضوع على