الخميس, أبريل 18, 2024

ليبولد بلوم ليس يهودياً!

القسم الثقافي
أحمد ديبو_
“بمناسبة مرور قرن على صدورها، لم تزل رواية /عوليس/ شاغلة الدنيا والنقّاد”.
في عام 1921 قام عزرا باوند بتعريف جيمس جويس على ناشرة أمريكية شابة تدعى سيلفيا بيش، وكانت تدير مكتبة إنكليزية صغيرة مؤلفة من غرفتين في شارع “أوديون” في باريس.
كانت مكتبة غير عادية سواء من حيث نوعية الكتب، والدوريات، التي تبيعها، أم من حيث نمط زبائنها وزوَّارها، فكل ما يتعلّق بالحداثة والتجريب كانا جواز مرور لأية مطبوعة إلى الرفوف العتيقة، التي أدمن على تنقيبها أشخاص مثل: عزرا باوند، ومارسيل بروست، ت.س إليوت، ووندهام لويس، وبابلو نيرودا، وجرترود شتاين، وإرنست همنغواي، ولورنس لوريل.
قبل لقاء جويس كانت سيلفيا بيش قد سمعت بالعراقيل العديدة، التي حالت دون إصدار “عوليس” والرعب الذي يستولي على الناشرين في كبرى العواصم الأوروبية كلما ورد ذكرها، لكن بيش حزمت أمرها، وقررت خوض المغامرة، التي ستدخلها إلى تاريخ الأدب من أوسع أبوابه، فباشرت بجمع حروف المخطوطة العجيبة المعقدة في مطبعة موريس دار “انتيه” في مدينة ديجون.
في الثاني من شباط 1922، اليوم الذي اجتمعت فيه أسرة جويس مع لفيف من أصدقائه للاحتفال بعيد ميلاده الأربعين. قدمت سيلفيا بيش حاملة الهديّة الأثمن: أوّل نسخة مطبوعة من “عوليس”.
إن تاريخ طباعة الرواية حافل بالوقائع، ويستحق دراسة خاصة.
يكفي القول هنا: إن الأيدي تناهبت الطبعة الأولى (1000 نسخة) خلال أيام معدودات، وإن الرواية مُنعت من دخول الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بعد تصنيفها في خانة “الأدب الإباحي”.
توالت الطبعات سنة بعد أخرى، وتحولت الى سلعة تهريب أساسية في البلدان، التي منعت دخولها، حتى أصدر القاضي الأمريكي جون وولسي قراره التاريخي، في السادس من كانون الأوّل 1933 برفع الحضر عن الرواية. وبعد قرن وعام على صدورها مازالت في “عوليس” جملة من المناطق المظلمة، التي يتابع النقد الأدبي محاولات تسليط الضوء عليها، بنجاح تارة، وبإخفاق أو بنتائج محدودة طوراً.
من بين هذه المناطق مسألة الهويّة الحقيقية لشخصية ليوبولد بلوم (هل كان يهودياً حقاً؟)… ذلك ما تحاول هذه المقالة مقاربته.
أي مواطن إيرلندي من أبناء جيل جيمس جويس، يمكن أن يستذكر بسهولة تفاصيل أسطورة قديمة حفظها عن ظهر قلب خلال سنّي الطفولة، إنها أسطورة (كتاب “الاستيلاء على إيرلندا” أو “كتاب الفتوحات” بالتسمية الشعبية).
تقول الأسطورة، التي لا تقوم على أي سند تاريخي، إن الأسكتلنديين عاشوا في سكيثيا، ثم هاجروا إلى مصر، حيث تزوج زعيمهم من سكوتا ابنة فرعون، ولقد كانوا على علاقة وثيقة وطيبة مع العبرانيين، ومع موسى بالذات، حتى أن إحدى الروايات تقول، إنّه دعاهم لمرافقة العبرانيين في خروجهم من مصر، بعد غرق الفرعون وجنوده في البحر الأحمر.
خشي المصريون من تعاظم قوة الأسكتلنديين، فطردوهم من مصر ممّا اضطرهم إلى تجوال طويل أشبه “بالتيه اليهودي”، عبروا فيه شمال إفريقيا، وإسبانيا حتى عثورهم على إيرلندا.
ذهب جويس في رسمه لملامح شخصية ليوبولد بلوم، إلى التلميح بشكل ضمني ما كان يعلنه مباشرة: تعاطفه مع اليهود كشعب مضطهد وجوّاب آفاق.
من الثابت الآن أن جويس كان مهتماً بصفتين جوهريتين في الشخصية اليهودية: العزلة بالاختيار المحض، والروابط العائلية الوثيقة.
اقتران جويس بالشخصية اليهودية يعود إلى أسباب عائلية، ونفسية، واجتماعية، وسياسية.
لقد آمن بتشابه المصائر بين اليهود والإيرلنديين، واستهوته الحياة العائلية لليهود، وشغفهم بالمعرفة (وأشار مراراً إلى تسمية “أهل الكتاب”، وتعرضهم للاضطهاد والخروج والتيه.
وكانت ظروفه الشخصية تشجع على تنمية هذه القواسم: تنقله المتكرر في أوروبا، وخروجه من إيرلندا، حظر كتبه، المنفى الاختياري، هذا كله تحوّل لديه إلى فعل تحرر من القيود الاجتماعية والسياسية، التي أحاطت به في إيرلندا، رغم أنه – مثل موسى – لن يبلغ أرض الميعاد، ولن يكون نصيبه أكثر من “منظر لفلسطين من رأس الفسجة”.
لكن بطله الروائي بلوم كان يتهكم حين يلتقي بوالده مرّة ثانية في “سرسيه”، فيرى الخروج في صورته الهزلية؛ حنين اليهود إلى قدور اللحم في أرض مصر.
وبلوم يعارض الحركة الصهيونية أيضاً، سواء في طروحات وجهود “موشي مونتيفيوري” ممثل الحركة في دبلن، أو في نشاطهم الأوسع نطاقاً هنا وهناك.
وكم حاول “الجزّار” الصهيوني استمالة بلوم بنظرة “متلهفة مشتعلة من عيون ثعلبية” فيرفض قائلاً: “لا، من الأفضل لا، في المرة المقبلة”، مفضلاً اللحاق بالفتاة ذات البُنية القوية.
في الطريق يقرأ بلوم المنشور الصهيوني الملطخ بدم كلية الخنزير. “الجزار كان قد لف الكلاوي التي اشتراها بلوم بالمنشور الصهيوني” وليس غرابة أن يكون موسى أبرز الشخصيات النمطية اليهودية، التي فضّلها جويس، فموسى كان منفيًّا، ومشرّعاً، ونبيّاً، وباني أمة، وقائد …، تلك كانت صفات كافية لجعل جويس يتماهى مع موسى في سياق الشروط النفسية الذاتية، التي عاشها شخصياً، وتلمّس منعكساتها على بلده إيرلندا، ورسمها في الملامح الدقيقة المركّبة لشخصية ليوبولد بلوم في “عوليس”.
بالإضافة الى هوية موسى، يتقمص بلوم هوية شخصيات أخرى أبرزها “إيليا” و”شبح هاملت”، فضلاً عن عوليس بطبيعة الحال.
“اليهود فسيفساء عربية”، هكذا تحدّث وزرائيلي، ولقد قبل جويس هذا الإطار السامي، الشرقي، وعكسه في شخصية بلوم في روايته عوليس.
في “إيثاكا” يتذكّر بلوم أنّه توجّه إلى المبنى العربي بشارع لينستر، و”نور إلهام يسطع على محيّاه ويحمل بين ذراعيه سرّ جنسه، منقوشاً بلغة النبوءة”.
الحدث يشير إلى هبوط موسى من جبال سيناء حاملاً الألواح، وانغلاق البحر الأحمر حين يتقدّم بلوم وسط المياه نحو الشرق، كما فعل في نهاية “آكلو اللوتس”: “وسار مبتهجاً نحو جامع الحمامات”.
وبلوم في عوليس لا يكف عن التفكير في الشرق وسحره.
في “كاليبسو” يعبر شارع طويل؛ لكي يستمتع بحرارة الشمس، رغم أنّه يرتدي بزته السوداء استعداداً ” لجنازة بادي دينغام”، في مكان ما في الشرق: تتجوّل خلال شوارع مسقوفة، وجوه معممة تسير لحالها، التركي المرعب يجلس متربعاً يدخن نرجيلة، صيحات الباعة المتجولين في الشارع، تشرب ماءً معطراً بالشمار، وتقترب من الغروب: ظلال المساجد على طول الأعمدة، شيخٌ معه مخطوط ملفوف، سماء ليلة قمراء بنفسجية، أوتار، أنصت، فتاة تعزف على واحدة من تلك الآلات، التي اسمها: قانون.
ينتقل بلوم إلى “زهور الخدر” وعرائس النيل … تصوّر لو اشتهيت أكلة “كوارع وكرشة”، أين ستجدها سوى في مصر.
في “سيرسيه”، يشدّد جويس على الطابع الشرقي لشخصية بلوم حين رماه أحدهم: أنت من سلالة مغولية، وحين يظهر بلوم فجأة مرتدياً ثياباً شرقية، ينشر قرطاساً ويقرأ برزانة: القدس، المدينة المباركة (بجامع عمر، وبوابة دمشق، قُبلة المطمح).
زوجة بلوم، “ماريون تويدي” أو موللي، عنصر مركزي في صناعة المناخ الشرقي للرواية.
تاريخ أسرتها الغامض يبدأ برحيل آل لوريدو من إسبانيا إلى مراكش هرباً من اضطهاد اليهود في عام 1492.
وفي المناجاة الطويلة، التي تختتم الرواية، تعود موللي بذاكرتها إلى مراكش حين صعدت هضبة طاحونة الهواء مع الكابتن روبيو، ورأت المضايق تتلألأ حتى مراكش، وخليج طنجة أبيض، وجبال أطلس، والثلج عليها، والمضيق في غاية الصفاء كالنهر”.
أصل موللي الشرقي، وتاريخ والدتها الغامض يوسّع مساحة انتشار العنصر الشرقي ليشمل المرأة أيضاً، برغبتها في ارتداء أحذية خفيفة من النوع، الذي يصنعه الأتراك في فاس، والاستلقاء في فراشها مع الكتب، والرسائل، وستيفن، والاعتكاف في قصرها كأميرة شرقية.
هذه التلميحات الشرقية، التي فرشها جويس على شخصيتي بلوم وزوجته، كانت لكي يقول لنا، إن بلوم ليس يهودياً، كما حاول الكثير من النقّاد الصهاينة، إضفاء هذه الصفة عليه، وذلك لأهمية الرواية، التي طبعت القرن العشرين بطابعها، وما يفيد ذلك في الدعاية الصهيونية.

​الثقافة – صحيفة روناهي

شارك هذا الموضوع على