حسين جمو

إذا حاولنا كتابة الصفحة الأولى من العلاقات الكردية التركية ستكون البداية من معركة ملازكرت (منازكرت بالكردية وملاذكرد في التاريخ العربي) عام 1071م. والصفحة الأخيرة تنتهي بثورة 1925 بقيادة الشيخ سعيد بيران، وهو حدث متفرع عن نتائج معاهدة لوزان عام 1923.

ما بين هذين الحدثين، شهدت العلاقات مداً وجزراً، ازدهاراً وخراباً، لكنها بقيت مستندة لأصول صلبة من الكفاح المشترك. وحين كانت تقع التجاوزات والصدامات، كانت هزيمة طرف لا تعني إبادة سكانية أو تحطيم الكيان الاجتماعي للآخر.

بقيت هذه المعادلة سارية المفعول حتى في ظروف تبدو نظرياً وكأن العلاقات في أزمة قاتلة، كما حدث في ثورة الشيخ عبيدالله النهري عام 1880، أو قبلها عصيان بدرخان بك في بوطان عام 1848. كانت التسويات تعقب الهزائم، وتنطلق مرحلة جديدة من العلاقات الندية.

بدءاً من 24 تموز/ يوليو 1923 انتهت مفاعيل ملازكرت وما أعقبها من لحظات تحالف شديدة الأهمية بين الطرفين، خاصة خلال النصف الأول من حقبة الدولة العثمانية. ذلك أن لوزان كانت إلغاءً كلياً لشخصية ومجتمع كردستان، ونهاية للإرث التاريخي المشترك لشعوب المنطقة منذ الزلزال الديمغرافي والسياسي الذي أحدثه ظهور الترك في الشرق الأوسط.

كان وصول الأتراك إلى عاصمة كردستان عام 1042م، محنة لم تشهدها شعوب كردستان وأرمينيا منذ حروب الإسلام المبكرة في خلافة عمر بن الخطاب. ذلك أن التمدد السلجوقي التركي كان يتحرك مجتمعياً، حيث آلاف العائلات ترافق الجنود في محل استقرارهم لتكوين نواة شعب جديد.

كانت الإمارة المروانية ذات القيادة الكردية (982- 1086م) أقوى كيان حاكم لمناطق كردستان وأجزاء من أرمينيا وأذربيجان. ولم يكن أي تركي قد وصل إلى تلك الأرض. في غضون سنوات قليلة تعرضت عاصمة الإمارة، ميافارقين، لأول محاولة غزو من قبل السلاجقة في عام 1042م بعشرة آلاف فارس. وعلّق ابن الأزرق، مؤرخ الدولة المروانية، والمعاصر لعدد من أمرائها، على هذه المحاولة بالقول، “وكان هذا أول ظهور الترك بهذه الديار، ولم يكن الناس قد رأوا صورهم” قبل ذلك. (تاريخ ميافارقين- ص 161).

حين اقتربت ساعة معركة ملازكرت (ملاذكرد) سنة 1071، كان السلطان السلجوقي، ألب أرسلان، قد زار آمد قبل توجهه للمعركة، والتقى أمير الدولة المروانية على اتفاق. لم يذكر ابن الأزرق في “تاريخ ميافارقين” بنود الاتفاق، فهو قد خطّ كتابه حين انتهت الدولة المروانية وبات السلاجقة سادة كردستان.

تسوية مع السلاجقة: “البقاء مقابل السيادة

يمكن وضع التعاون الكردي مع السلاجقة في إطار اضطراري تعاون اضطراري للطرفين، خاصة الجانب الكردي، وليس تبعية لقيادة جديدة. وقد حكمت طبيعة الشريحتين الحاكمتين، الكردية والتركية، هوية كل منهما في وقت مبكر من اللقاء المرواني – السلجوقي، وهو أن الشريحة الكردية الحاكمة لم تحاول التوسع خارج النطاق الجغرافي الكردي والأرمني، وهذه من المفارقات التي لم يعالجها معظم المؤرخين المشتغلين على هذه الحقبة أو تغافلوا عنها عمداً لأسباب تتعلق بالسردية القومية الأحادية للتاريخ والتي تفشت مع مطلع القرن العشرين. فعلى عكس كافة إمارات “الثغور” الإسلامية، لم تكن الدولة المروانية كياناً جهادياً، واعتمدت على دور وظيفي هو الحاجز المهدئ للصراع بين الإسلام والمسيحية عبر بناء علاقات إيجابية مع الإمبراطورية الرومانية الشرقية لصالح الخليفة العباسي في بغداد.

ومن الملفت أنه في هذا التاريخ، أي قرابة عام 1000م، يلخص المؤرخ الأرمني أصوغيك استناداً إلى مصادر أرمنية وإسلامية، مفارقة قد تكون صادمة للسردية العامة الشائعة، وهو أن “السكان المسلمين كانوا أعداء الأمير المرواني. وبناء عليه أفلح الأمير الكردي في تحطيم الجماعات المعارضة المسلمة ونفيهم وإبقاء الأرمن والسريان فيها بشكل رئيسي”. (أرشاك بولاديان – الأكراد في حقبة الخلافة العباسية)، ويعود هذا الاستنتاج إلى العداء الذي استحكم بين الحمدانيين العرب حكام الموصل وحلب، وبين المروانيين، على فترات متقطعة لكن دموية، منها ما قام به نصر الدولة بن مروان حين فتك جماعياً بالسكان الموالين للأمير الحمداني في ميافارقين (ينظر: تاريخ ميافارقين).

وجمع أرشاك بولاديان شهادات لمؤرخين أرمن، وأخرى لمسلمين مثل ابن الأثير، ليدعم استنتاجه أن الإمارة المروانية الكردية كانت مرتبطة بالامبراطورية البيزنطية، خصوصاً في عهد الأمير الأبرز، نصر الدولة ابن مروان، الذي حكم مدة 50 عاماً، وقبل ذلك، كان الامبراطور البيزنطي، باسيل الثاني، قد عقد اتفاقية مع ممهد الدولة المرواني، ومنحه لقباً فريداً لم يسبق أن ناله حاكم إسلامي من إمبراطور مسيحي، و هو لقب “ماكسيتروس” و “دوق الشرق” في عام 1000م. (أرشاك بولاديان – الأكراد في حقبة الخلافة العباسية ص 201).

إذاً، لم يكن الكرد الذين ظهروا كمسلمين على مسرح التاريخ منذ مطالع القرن الحادي عشر الميلادي، مدفوعين بعقيدة “الفتح” والتوسع، على عكس السلاجقة الباحثين عن أرض جديدة يحكمونها ويعيشوا فيها، فالكيان السلجوقي ذو طبيعة توسعية، وبالتالي تناسبها فكرة الجهاد ضد الكيانات المسيحية.

بعد اشتراكهم في تغليب كفة السلاجقة ضد بيزنطة، فقد الكرد أهم وظائف استمرار ملكهم، وهو توليهم مسؤولية حماية إحدى مناطق التماس الأكثر خطورة بين المسلمين وبيزنطة.

وهناك قلة ممن قرأوا الأمر من زاوية أخرى، فبحسب قراءة تحليلية لزعيم حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان، فإن اللقاء الكردي التركي في ملازكرت كانت تسوية لفتح ممر أمام القبائل التركية للتدفق إلى الأناضول عبر أرضروم وشمال دياربكر مقابل عدم استيطان القبائل التركية في أراضي الكرد وجوارهم الأرمني. (ينظر: اوجلان- القصية الكردية وحل الأمة الديمقراطية – ص 107).

حاول الكرد التأقلم مع التوسع التركي في أرضهم، فخاضوا معاً معركة ملازكرت الملحمية، وكانت في الواقع والمحصلة مخرجاً مبتكراً ظن المروانيون أنه سيكون بها خلاصهم من الزلزال الاجتماعي التركي الذي تصدع أمامه الشرق العباسي برمّته من خوارزم إلى غزة. فقد أدت هزيمة بيزنطة في ملازكرت إلى فتح طريق للقبائل التركية إلى الأناضول بدلاً من استيطانها في كردستان. ورغم التضحية المروانية التي كانت تتمثل في “التضحية بالسيادة مقابل البقاء”، فإن التخلص من مظاهر الاستيطان التركي في كردستان وأرمينيا لم يتم إلا بعد قرن كامل حين خاض صلاح الدين الأيوبي معركة لا هوادة فيها ضد السلاجقة في كافة أرجاء بلاد الكرد. ورغم أن سلالات تركية مثل “الأرتقيين” بقيت حاكمة في حواضر كردية، مثل ماردين، فإنها خضعت في النهاية للقيادة الأيوبيةن ولم تكن ذات عمق اجتماعي، وبتعبير آخر: سلالات بلا مجتمع.

رغم ذلك، لم يؤسس تحالف ملازكرت لتعايش طويل الأمد بين الطبقتين الحاكمتين، الكردية والتركية. فحتى سنة 1086م، تاريخ انهيار الدولة المروانية، ركن الكرد إلى دفع الأموال لحماية انعزالهم الفريد عن المحيط المضطرب، إلى أن جاءتهم الضربة القاضية على أيدي السلاجقة وحانت النهاية الحتمية جراء تجاور قوتين، إحداها توسعية – جهادية، والثانية انعزالية منكفئة على نفسها.

ينقل ابن الأزرق في تاريخ ميافارقين، تعليقات ذات مغزى لم تذكرها مصادر أخرى. فقد خاطب الوزير الفارسي الشهير للسلطان السلجوقي، نظام الملك، سيده ملكشاه قائلاً وهو يشير إلى بلاد بني مروان: “تلك البلاد قد خلت، وبها من الأموال ما لا يعد ولا يحد”. وفي العام 1086، استولى ملكشاه على ممالك الكرد قاطبة. وأرسل إلى أمير الكرد ناصر الدولة يسأله عما يطلبه مقابل فقدانه السيادة على بلاده، فأجابه ناصر الدولة جملته الشهيرة: “حربة تقع في صدري فتخرج من ظهري” (تاريخ ميافارقين – ص 213).

ويوجز العلامة محمد أمين زكي في كتابه “خلاصة تاريخ الكرد وكردستان” إلى أنه بعد معركة ملازكرت “خضعت جميع بلاد أرمينية وكردستان شيئاً فشيئاً لحكم آلب أرسلان السلجوقي. وهكذا زالت من الوجود كل الحكومات والإمارات الكردية التي كانت قائمة حينئذ، وأصبحت كلها خاضعة لسلطان السلاجقة”. (ص 213)

إن ربط المشاركة الكردية في المعركة من أجل فتح ممر للسلاجقة للتوجه غرباً، له ما يعززه في ثنايا مؤلفات تركية على نحو غير مباشر، ومنهم يلماز أوزتونا، مؤلف موسوعة الدولة العثمانية، حيث كتب أنه بعد المعركة أخذ السلطان “سليمان شاه” أنطاكيا من البيزنط سنة 1084 و”جاء مئات الآلاف من الأتراك من الشرق واستوطنوا الأناضول، مبتدئين بالمدن أولاً” ( الدولة العثمانية- الجزء الاول – ص 68).

بهذه الصيغة التغلبية من جانب السلاجقة على المروانيين، بقيت الكتلة السكانية الكردية متموقعة في مكانها، كما الآن على وجه التقريب، بينما انتقلت القبائل التركية مئات الكيلومترات غرباً، لكن ليس بلا ثمن. فرغم هذه التسوية الاستراتيجية، لم تنجو الدولة المروانية من جحافل القبائل التركية، ونقل أموال الأمراء الكرد إلى السلطان السلجوقي. وفشلت انتفاضة كردية- عربية ضد الحكم السلجوقي عقب مقتل نظام الملك ووفاة ملكشاه، وجرى اغتصاب وسبي للنساء على نحو واسع ذكرها ابن القلانسي في موسوعة “تاريخ دمشق” في حوادث سنة 485 و 486 للهجرة ما يعادل 1092 و1093م.

ولأن التدفق السكاني لم يتوقف من الشرق، باتجاه الغرب، فإن انزياحاً سكانياً قد حدث في المنطقة تحت تأثير الغزوات التركية. فقد انتقل قسم من الكرد إلى بلاد الشام قادمين من كردستان وأذربيجان. وسحق الغزو السلجوقي الوجود العربي في شمال منطقة الجزيرة والموصل، وانتهت دولة العقيليين العرب بالتزامن مع انهيار المروانيين الكرد، وفشلت جبهة المقاومة الكردية العربية المشتركة في صد الزحف التدفق العسكري التركي بسبب عدم انتهاء التدفق البشري الناجم عن انفجار سكاني وانهيار للموارد المعيشية، في شرق ووسط آسيا، وهي فرضية لم تخضع للدراسة التاريخية.

رغم خسائرها الكبيرة، على الكرد والعرب، مرت هذه الحقبة المصيرية بهذه التسوية، أي فتح الممر للترك للتقدم غرباً بدلاً من استيطانهم أراضي الكرد والعرب، ولم يحدث ذلك بأثر فوري ودون ضحايا. وبفضل سياسة المروانيين وأتباعهم الكرد، تم تفادي الدخول في معركة فاصلة مع الوافدين الجدد (السلاجقة)، فللكرد أرض سيخسرونها في حال هزيمتهم، بينما للترك أن يغيروا وجه لجام خيولهم وينتهي الأمر. بالتالي، أي معركة فاصلة كانت تعني فناء أحد الطرفين، كما حدث مع آخر دولة ذات روح عربية في العصر العباسي، وهي إمارة بني عقيل في الموصل والجزيرة التي تحطمت عسكرياً واجتماعياً في الحرب الفاصلة مع السلاجقة.

العهد الأيوبي: الحروب الكردية التركية

أخذت العلاقات التركية الكردية في الفترة الأيوبية طابعاً تناحرياً خطيراً، تخللتها صدامات اجتماعية واسعة تدخلت فيها الجيوش للحسم.

حين تسلم صلاح الدين الأيوبي الحكم في مصر سنة 1174م، كانت بلاد الكرد ترزح تحت حكم القبائل التركمانية. ومع تمدد الأيوبيين إلى بلاد الشام والجزيرة نشبت حرب طاحنة مع بقايا السلالات التركية الحاكمة دامت سنتين، وألحقت خسائر فادحة بالطرفين، وتوقفت مؤقتاً تحت غرض الاتحاد ضد الصليبيين. إلا أن الحروب التركية الكردية اندلعت مجدداً “حتى أسفرت عن جلاء الكرد عن بعض البلاد السورية وكيليكيا وأضنة” (محمد أمين زكي – تاريخ الكرد وكردستان – ص 222).

أول ذكر للحروب التركية- الكردية في العهد الأيوبي وردت في الجزء العاشر من “الكامل في التاريخ” لابن الأثير، في حوادث سنة 581 هجرية (1185 م)  تحت عنوان “ذكر الفتنة بين التركمان والأكراد بديار الجزيرة والموصل” (ص 11)، وفيها تفاصيل عن منشأ النزاع الاجتماعي حين تعرضت مجموعة من الكرد  لحفلة عرس تركمانية، فعمّ القتال بلاد الكرد قاطبة:

“وفيها ابتداء الفتنة بين التّركمان والأكراد بالموصل، والجزيرة، وشهرزور، وأذربيجان، والشّام. وقتل فيها من الخلق ما لا يحصى، ودامت عدّة سنين. وتقطّعت الطّرق، وأريقت الدّماء، ونهبت الأموال”.

بعدها بعام ينقل شمس الدين الذهبي في موسوعة “تاريخ الإسلام“:

“وفي هذه الأيام كثر الخلاف بديار بكر والجزيرة بين الأكراد والتّركمان” (الجزء 41 – ص 14)

تدل هذه الوقائع الدامية في قلب الديار التاريخية للكرد إلى أن القبائل التركية قد استوطنت كل زاوية من زوايا بلاد الكرد. ولا يفصّل ابن الأثير، المتحيز بلا ريب للزنكيين ضد الأيوبيين في كتابه، سوى هذا التبرير لتلك الحرب الكردية التركمانية عام 1185م. لكن في العام نفسه، كان صلاح الدين قد وافق على الصلح مع أتابك عز الدين، وهم من رعايا الزنكيين، ومن اللافت أن الصلح قضى بإبقاء الموصل في أيدي الأتابك، على أن يأخذ صلاح الدين المناطق الواقعة خلف الموصل كاملة وكلها كردية خالصة، وهي شهرزور وولاية قرابلي (نواحي كركوك) وما وراء الزاب، وأن يخطب له على منابره، ويضرب اسمه على السكة.

المماليك: تصفية الأرستقراطية الكردية

في الجزء الـ47 من تاريخ الإسلام للذهبي، ترد وقائع متتالية عن استيلاء المماليك على الحكم من الأيوبيين، ومجريات المجازر التي ارتكبها المماليك بحق الأمراء الكرد في مصر والشام، فكانت تصفية شاملة، للأرستقراطية الكردية الحاكمة، لكن الشريحة القبلية القيادية لم تمس وبقيت تساهم في المجهود العسكري المملوكي مقابل معادلة جديدة من السيادة المحلية، خاصة أن المجتمع الكردي قد تم إنهاكه بالاستنزاف المديد جراء الحروب الأيوبية البعيدة عن أراضي الكرد، ومع نهاية المرحلة الأيوبية، كانت المدن الكردية قد استقرت على معادلة تضرب بتأثيرها حتى اليوم. فقد نجت هذه المنطقة من الاستيطان التركي، لكنها لم تتحرر تماماً من السيطرة التركية.

على عكس كافة الدول والإمارات الكردية، سجلت السلالة الأيوبية استثناء بخروجها من حدود الكرد. وهذا حدث يؤرّخ للمرة الأولى على الصعيد الكردي منذ الدولة الميتانية – الهورية 1500 ق.م. لكنه كان توسعاً إشكالياً، فقد كان معكوساً، بدأ من مصر ودمشق ثم اتجه نحو بلاد الكرد.

انشغلت دولة المماليك بالغارات المستمرة على الإمارات التركمانية في الأناضول وشمالي حلب، فكانت فترة استقرار نسبي للكرد الذين حافظوا على حصة وازنة من القوة العسكرية المملوكية (يراجع كتاب محمد عبد الله سالم العمايرة، “الأكراد في النظام العسكري المملوكي”). وباتت هناك سيادة كردية على مناطق واسعة استوطنها التركمان في حلب وأطرافها الشمالية. واستمرت الاستقلالية الكردية القبلية والعسكرية صامدة حتى ظهور العثمانيين على مسرح التاريخ، فشكلوا جزءاً صلباً من التوسع العثماني نحو الشرق والجنوب وكفة راجحة في تغليب العثمانية على الإمارات التركمانية المنافسة.

العثمانية: تحالف الإمبراطورية والقبيلة

منذ دخول السلاجقة إلى الشرق الأوسط، وحتى صعود الدولة العثمانية، دخلت البلاد الممتدة من خراسان إلى الأناضول في حرب أهلية منهكة، غالبيتها بين القبائل التركية التي نقلت خلافاتها الآسيوية إلى مناطق الاستيطان الجديدة في بلاد الشام والعراق وكردستان والأناضول. استمرت حلقة الحروب الداخلية التركية على امتداد المنطقة التي نتج عنها فرز للقوى المسيطرة آنذاك، تضمنت في طورها الإمبراطوري ثلاث ممالك؛ اثنتان من الأنساب التركية، هي الصفوية والعثمانية، والثالثة مختلطة، تركية وقفقاسية، تمثلت بالمماليك في مصر والشام والحجاز.

وهوية الصفوية مميزة، فهي ذات رأس تعود بأصولها إلى الكرد ومستتركة في الوقت نفسه، وجيش عماده من التركمان القزلباش، ورعية غالبيتها فارسية.

في عهد الصفوية، استكمل تتريك أذربيجان التي كانت حاضرة قديمة للشعوب القفقاسية والإيرانية، وباتت مستوطنة هائلة لقبيلة قره قوينلو (الخروف الأسود) التي كانت تؤلف عماد القوات العسكرية للصفويين.

على الطرف الآخر، كان السلطان العثماني سليم الأول، يحشد باسم الملّة السنية، شرقاً، قواته المؤلفة من القبائل التركية. لكن قواته هذه لم تكن كافية لتحقيق انتصار حاسم ونقطة تحول في تاريخ المنطقة، وما كان لهذا النصر أن يكتمل إذا لم يضمن وجود الكرد إلى جانبه.

وجد الكرد في سليم الأول نصيراً تركياً ضد القبيلة التركية الحاكمة في كردستان الآق قوينلو (الخروف الأبيض- السنّة) والقره قوينلو (الشيعة) اللذين كانا يستوليان على كامل كردستان، وكان أمير آق قوينلو، حسن الطويل، ذو مطامع امبراطورية.

في بعض مراحل التاريخ كان الوصول إلى ما وراء وسط آسيا عن طريق مسار البحر الأسود أكثر أمناً بالنسبة للتجار الأوروبيين، وكان هذا من سوء حظ بعض المحطات التجارية في شرقي المتوسط، فقد أصبحت المنطقة الممتدة عبر أرمينيا وكردستان وشمالي بلاد الشام، مهجورة وغارقة في الفقر، كذلك الحال في الأناضول التي تحولت في مراحل قصيرة، لكن في غاية القسوة، إلى “جيوش بلا مجتمعات” تركت أثرها الكبير في تأخير استيطان الشعوب الوافدة حديثاً، مثل القبائل التركية، في المدن، وبقيت ردحاً من الزمن شعوباً عسكرية بالكامل، ولعل هذا ما ساهم بشكل إيجابي في إبقاء السكان الأصليين في المدن والقرى الزراعية المتلاشية في الأناضول بدون مزاحمة من الوافدين الجدد، وبقيت صفة الترحال ، أو عدم الإقامة في المدن، صفة ملازمة للقبائل التركية حتى وقت متأخر في زمن

حكمت قبيلة الأق قوينلو التركمانية من (1469 – 1502)، ومنحت امتيازات لتجار البندقية الإيطاليين في دياربكر، بدون أن تشكل مدناً لسكانها التركمان. وكانت البندقية ترى في دياربكر، بعاصمتها التاريخية الحصينة آمد، الفك الشرقي من الكماشة لمحاصرة التوسع العثماني المبكر، حيث أن العلاقات توترت ودخل الطرفان عدة حروب عقب استيلاء محمد الفاتح على القسطنطينية عام 1453م، فعقدت البندقية تحالفاً مع أوزون حسن الذي كان خائر القوى وسرعان ما انهارت سلالته.

وفق أكمل الدين إحسان أوغلو، في كتابه “الدولة العثمانية”، كان أوزون حسن (حسن الطويل) يتصور نفسه “تيمورلنك الثاني” ويحلم بتوحيد الإمارات التركمانية بعاصمتهم دياربكر، أي أنه امتلك رؤية استيطانية مستقبلية تكون فيها آمد عاصمة التركمان.

كانت حرب جالديران بين العثمانيين والصفويين سنة 1514م فرصة لتأسيس علاقة تركية كردية جديدة، تتجاوز التوترات المديدة منذ السلاجقة ومن تبعهم. في المقابل، كانت هذه الوقعة فرصة لبني عثمان أن يتخلصوا من الصداع الذي تسببه لهم قبائل التركمان البدوية، الرافضة لمبدأ الدولة الإمبراطورية نفسها. فـ”سليم الأول” بهذا المعنى، استقوى بالكرد ضد الصفويين، وقوّاهم ضد التركمان الذين كانوا من الرعايا غير المرغوب فيهم عثمانياً حتى تأسيس الجمهورية التركية، لرفضهم التحول إلى رعايا بالمفهوم الامبراطوري.

قبل معركة جالديران التي حطمت تطلعات الصفوية في جعل نهر الفرات الحد الغربي مع دولة الروم (العثمانية)، نال الشيخ والعالم الكردي الشهير إدريس البدليسي، تفويض السلطان سليم، لترتيب الأوضاع في أصقاع كردستان المفككة والمتنازعة بين أمرائها، فجمع كلمتهم وأقنعهم بنظام إداري خاص، يكون الحكم بالوراثة، فقام مندوب السلطان، البدليسي، بتنظيم العلاقة بين الإمارات الكردية والسلطنة العثمانية بعهد مكتوب للحكم الذاتي شمل أكثر من 46 أميراً كردياً، منهم 12 بلقب الخان (شرفخان بدليسي – الشرفنامة).

وعن هذا كتب الرحالة العثماني أوليا جلبي منتصف القرن السابع عشر:

إن هذه الحكومات الاثنتى عشرة منذ قانون السلطان سليم، لا يولّون ولا يعزلون، وهم يحكمون وذريتهم من قبل الوزراء وبأمر السلطان ويرسل إليهم أمر سلطاني بذلك، وأهل الولايات يسمون الحاكم منهم الخان. ولله الحمد فقد سحتُ في كردستان ذات الأرض الحجرية سبعة أعوام، وكتبت عن كردستان ما تحققت من صحته في كتاب قائم بذاته، ولولا وجود كردستان كسد بين آل عثمان والفرس لما تحقق الاستقرار لآل عثمان لأن الفرس خصم عتي شجاع.

وتقديراً للموقف الكردي، أرسل السلطان سليم للأمراء الكرد “15 علماً و500 خلعة من الخلع السلطانية الفاخرة” (خلاصة تاريخ الكرد – ص 249).

سرعان ما تحولت كردستان مجدداً إلى ساحة التقاء الجيوش الإقليمية. وحتى عام 1550، كانت الحواضر الكردية قد تعرضت لتدمير شامل على أيدي هاتين القوتين، وكل منهما كان يستولي على قسم من الأراضي المأهولة بالكرد.

خلال الفترة من 1514 وحتى نهاية عهد سليمان القانوني سنة 1566، تعرض الكرد لعقوبات جزئية طاولت بعض الأمراء، فقد كان للاتفاق الشامل، الكردي التركي، في جالديران، صدى في سنوات حكم القانوني، رغم خرقه للاتفاق حين عزل أميراً كردياً وعيّن محله أحداً من غير ورثته في بدليس. لكن ما إن تسلم مراد الثالث الحكم، سنة 1574، حتى كان “عهد السلام” الهش قد اهتزّ بشدّة. فقد تحولت الديار الكردية إلى هدف مستمر للغارات الصفوية، عاماً بعد عام، وهذا لم يسمح بالعمران بسبب الحملات العسكرية المتتالية، ومقتل عدد كبير من الكرد في كل حملة، فقد تنصلت الدولة من مسؤولياتها في الدفاع عن كردستان في وجه الصفويين، باعتبار أن مسؤولية الدفاع ذاتية – إلا في حالات تراها السلطنة ضرورة- ليدفع الأمراء الكرد ثمن الاستقلالية الممنوحة لهم في وجه جيش يفوقهم في الموارد.

فضلاً عن ذلك، فإن اتفاق السلام الكردي العثماني المذكور قد قيّد بطريقة صارمة نمو أي إمارة كردية مركزية لقيادة مسائل الدفاع والإدارة، وبقيت حدود الإمارات شبه المستقلة ثابتة “لا تتوسع، ولا تتوحد” تحت راية غير راية بني عثمان.

هناك اجتهاد يحتاج متابعة وتنقيباً بحثياً مفاده أنّ هنالك مبالغة في تصوير تأثير الاتجاهات الدينية على القادة الكرد في مرحلة الصدام العثماني الصفوي، و أنّ الكرد فضلوا التحيز إلى دولة المذهب السني (العثمانية) تحت تأثير الميل المذهبي. حقيقة لا تشير الوقائع المدونة في “الشرفنامة”،  وهو أهم مصدر في التاريخ الكردي، على اتخاذ الكرد قراراتهم تحت هاجس المذهب السني أو الشيعي، لكن ما تم تصويره أكاديمياً في الدراسات الحديثة يذهب في عكس هذه الفرضية، ويربط “عدم النجاح” بوقوع الكرد تحت هيمنة التفكير الديني، و هي خلاصة لا تستند إلى الأدلة بقدر استنادها إلى القراءة الغربية للتاريخ الحديث في المشرق و تعظيم العامل الديني في صناعة الأحداث.

 إن إلقاء نظرة على التقديرات السكانية مطلع القرن السادس عشر بين ثلاثة شعوب توضح جانباً من علاقة السيكولوجيا بنمط بناء الدولة؛ فرغم أن التقديرات المعقولة لا تستند لأرقام وإحصائيات موثقة، لكن حجم وكثافة الانتشار الجغرافي والقبلي، يوضح أن عدد السكان كان متقارباً بين الكرد والفرس والترك. نجحت سلالات حاكمة في تأسيس إمبراطوريات إيرانية وتركية تجاوزت حدودها الطائفية والإثنية، و ذلك على عكس الكرد، الذين حكموا طيلة العصور الوسطى والحديثة مناطق أقل من مساحة انتشارهم الفعلية. التفسيرات عديدة وربما متناقضة، ولا ينبغي إغفال أن “الإبتكار التجاري” يكمن في قلب هذه المفارقة، فالقادة الذين أهملوا “البعد التجاري” في بناء الكيانات السياسية لم ينجحوا في بناء دول إمبراطورية، وهذا كان حال الكرد – وما زال – في الشرق الأوسط، وتم تصويرهم، مثلهم مثل الأوزبك والبلوش والبشتون، كقوة معيقة لتوسع رأس المال التجاري. بعبارة أخرى، لم يقدموا أنفسهم كشركاء تجاريين للقوى الإمبراطورية – ولاحقاً الرأسمالية – الباحثة عن مراكمة الثروة والنفوذ. حتى في التفاهمات التي تمت بين السلطان سليم الأول والأمراء الكرد بين أعوام 1514- 1516 كانت الشراكة مبنية، في الجوهر، على منح الحرية للكرد في أن يبقوا منعزلين.

إنّ قراءة الاتفاق – الشراكة – بين الدولة العثمانية والكرد في بدءاً من العام 1514 وقع أيضاً ضحية الفرضية الدينية، لذلك لم يحظ هذا الحدث الحاسم في التاريخ العثماني بتحليل يرقى إلى حجم التغير الذي طرأ. كان الاتفاق هو الرافعة الاستراتيجية الأولى التي رسمت الطابع الامبراطوري للدولة العثمانية بعد أن كانت قبل هذا التاريخ دولة نصف بلقانية ونصف أناضولية. بعد هذه الشراكة التي منحت للأمراء الكرد حق حكم إماراتهم وتوريثها و الحق في إقامة حكومة كونفيدرالية باسم كردستان، انكسرت الدولة الصفوية، ليس في المعركة العسكرية (جالديران)، فسرعان ما استعادت العاصمة تبريز و معظم أراضي كردستان؛ إنما خسرت التحالف مع الإمارات الكردية، من أورميه إلى آمد، وهذا الأمر أجبر الصفوية على إعادة صياغة كلية لاستراتيجيتها، فبدلاً من الطموح الامبراطوري للشاه اسماعيل الصفوي في أن يكون نهر الفرات هو الحد الطبيعي بينه وبين العثمانية، فإنه بات مقتنعاً بنهر آراس.

حاولت الصفوية الاستثمار في الأخطاء العثمانية في كردستان، فكسبت ولاء عدة إمارات كردية بشكل متفرق دون أن يشكل تحولاً في مجرى الصراع على الهضاب الثلاث المتسلسلة (الفارسية والأرمنية والأناضولية).

يمكن صياغة المعادلة عشية جالديران على الشكل التالي:

“الطرفَ الذي سيتحالفُ مع الكرد، كان سيغدو القوةَ السائدةَ في منطقةِ الشرقِ الأوسط. وموقفُ السلطانِ العثمانيِّ ياووز سليم بعقدِه التحالفَ الاستراتيجيَّ بين القوتَين اللتَين تكادان تُعتَبَران متكافئتَين (الكرد و الترك)، لَم يتأخرْ عن إعطاءِ ثمارِه التاريخية. والتحالفُ المُبرَمُ كان يعترفُ للإماراتِ الكرديةِ بشبهِ استقلاليةٍ واسعةِ النطاقِ وبصلاحياتِ التحولِ إلى حكومة. وأكثر من كونِه تحالفاً، فقد كان يَشُقُّ طريقَه صوب إمبراطوريةٍ تركيةٍ – كردية، مثلما حالُ الإمبراطوريةِ النمساويةِ – المجرية. وأيُّ راصدٍ يَقِظٍ للتاريخ، سيَتمكنُ من رؤيةِ الطابعِ الاستراتيجيِّ للشراكةِ بين بلادِ الأناضولِ وميزوبوتاميا”.

(عبدالله أوجلان – خريطة الطريق – ص 108).

شيئاً فشيئاً، لم يبق من العهد الاستراتيجي بين سليم الأول والأمراء الكرد سوى الذكرى. وبدأت الإمارات الكردية تسقط بالتتالي، ووجهت لها ضربات قاضية منذ تدشين الإصلاحات في الدولة العثمانية بدءاً من سنة 1839. فبينما كانت تتقلص حدود الإمبراطورية في البلقان، كانت تزداد عنفاً في الداخل، خصوصاً أن الطبقة السياسية قد قررت الإجابة عن سبب تأخرهم وتقدم أوروبا.

تطلبت الرؤية الجديدة إلغاء إمارات الحكم الذاتي في الدولة، ومنها ولايات كردستان. وكانعكاس مباشر لذلك، تصاعد التوتر الديني بين المكونات والطوائف. بعد الإصلاحات (خط كلخانة 1839 – خط همايون 1856) باتت الدولة متحيزة – في نظر الأمراء والشيوخ الكرد – لصالح المسيحيين.

هناك الكثير من الإشكالات التاريخية في تشريح هذه المرحلة، إلا أن نتائجها ظاهرة للعيان. فقد أنهت الدولة العثمانية إمارة صوران، الواقعة اليوم في إقليم كردستان العراق سنة 1834. وإمارة بوطان سنة 1847. كما انهارت إمارة بابان بقرار عثماني أيضاً مع منتصف القرن التاسع عشر. وحين تسلم السلطان عبد الحميد الثاني الحكم سنة 1876، كانت الإمارات الكردية التاريخية الممتدة منذ بواكير التحول إلى الإسلام، قد اختفت تماماً، وخلفت وراءها فوضى ومجازر وحملات تهجير.

مع تسلمه السلطة في فترة حرجة، حاول السلطان عبدالحميد الثاني (1876 – 1909)، الانقلاب على الإصلاحات، وأوقف العمل بالدستور الذي أقره بنفسه عام 1876، وسحب المزايا الممنوحة للأرمن في الإصلاحات السابقة.

كانت تلك إشارة التقطها الكرد على الفور وهم يرون كيف حوّل إرث الإصلاحات العثمانية بلدهم إلى كومة من الخراب مليئة بقطاع الطرق والقتل. فقد بات لديهم مجدداً حليف هو السلطان نفسه، وهذا لم يحدث سوى مرة واحدة في السابق، مع السلطان سليم الأول. وقد ابتكر السلطان عبدالحميد منهجاً جديداً سمح فيه للكرد بالتمييز بين الدولة وبين الخليفة – السلطان.

بهذا المعنى، كانت حقبة السلطان عبد الحميد هي التي كان فيها الكرد مناهضين للدولة الإدارية (موظفين، جيش، ولاة.. إلخ) وموالين للدولة السلطانية، لشخص السلطان عبدالحميد. ويمكن إيجاد هذا الأثر في أن عبد الحميد الثاني، كان على اتصال مباشر مع بعض الشيوخ الكرد، دون مرور المراسلات بالأجهزة الرسمية.

كان للطرفين، الكرد والسلطان، حساباتهما، ويلتقيان في مناهضة القوميات والطوائف الموالية لروسيا داخل الدولة. ونتيجة الاستثمار المتبادل، فضلاً عن تعدد مراكز النفوذ في الأستانة، حملت أبرز شخصية كردية في تلك الحقبة، الشيخ عبيد الله النهري، لواء ثورة وطنية كردية عامة شملت أراضي كردستان في الدولتين الإيرانية والعثمانية، معاً، سنة 1880. وبعد هجومها الواسع على الحاميات القاجارية في كردستان الإيرانية، تمكن أتباع القائد الكردي من تحرير معظم مناطق العشائر الكردية في حوض بحيرة أورميه، لكنه تعرض للهزيمة لاحقاً بعد تدخل الباب العالي سياسياً لإيقاف اندفاعة الشيخ التي أقلقت الدولتين رغم شبهة تواطؤ بين الشيخ النهري والسلطان عبدالحميد.

خلال الأعوام التالية، شهدت العلاقات بين الكرد والسلطة هدنة غير معلنة، بسبب ضعف القوى الاجتماعية الكردية المستقلة، وصعود تنظيم الألوية الحميدية. إلا أن هذه الهدنة لم تشمل بأي حال من الأحوال الكرد الإيزيديين والعلويين الذين بقوا هدفاً مستمراً للسلطات العثمانية منذ أول تفاهم كردي تركي.

مع نجاح عبدالحميد الثاني في التحكم بأدوات العنف – الحكم في الدولة، ارتسمت ثلاثة خيارات متعارضة، لماهية الدولة، متفاوتة في درجة القوة.

1- الأمة الإسلامية

كان القالب الإصلاحي للدولة يدفع بالنظام نحو “الدولة الأمة” فيما السلطة المركزية تعيش فوضى التطبيق، وتآكل الولاء للدولة من قبل القطاع الأوسع من السكان.

في كردستان، أدى تعيين الدولة للولاة على الكرد، بدلاً من السلالات الكردية التاريخية، وعدم نجاح هؤلاء المركزيين في تقدم أفضل مما كان يقدمه الأمراء السابقون، إلى اهتزاز شرعية الدولة داخلياً، فضلاً عن منح الدولة أفضلية في ثمار الإصلاح للأرمن، الذين – رغم قوتهم – إلا أنهم ما كانوا سيصمدون طويلاً أمام نقمة شعبوية كردية كانت تلوح في الأفق. فزادت التوترات وباتت على وشك الانفجار اجتماعياً لولا إيقاف السلطان عبدالحميد الثاني مسار التحديث الهمايوني، عبر طريقة مربكة أيضاً في إدارة التعددية الامبراطورية، فلجأ إلى دعم قيادات اجتماعية كردية وشركسية وأرناؤوطية، في الداخل، ضد الرعايا المسيحيين الذين تعهدت فرنسا وبريطانيا وروسيا بحمايتهم. صحيح أنه أوقف العمل بالدستور الذي أصدره، مؤقتاً، ثم تعايش مع الهزيمة المدوية في الحرب مع روسيا عام 1878، ثم التوقيع على معاهدة سان ستيفانو المذلة، ثم معاهدة برلين، لكن هذه التطورات أدت إلى أن تصبح الدولة رهينة بشكل أكثر من أي وقت سابق، في أيدي بريطانيا وفرنسا. كان الوقت قد فات لإيقاف المسار الذي رسمه جدّه محمود الثاني، ووالده عبدالمجيد الأول. ولم تنشأ حركة إصلاح ذات جذر عثماني، فبقي الخيار أمام عبدالحميد إما الذهاب مع الإصلاحيين ذوي الثقافة الفرنسية، أو تقوية الرجعيات الداخلية لتعطيل مسار انتقال الدولة من الطور الامبراطوري إلى “الدولة القومية”. وهو اختار تقوية النزعة المحافظة، دون أن يضفي عليها صفة شرعية تمثيلية حتى، ما عدا الألوية الحميدية في كردستان. فكانت هذه الصيغة منتجة لـ”القومية الإسلامية” داخل الدولة، والتي كانت في موقف هجومي أحياناً ودفاعي أحياناً أخرى، تجاه القوميات المسيحية، خصوصاً أن الصيغة التدخلية للدولة الأوروبية قد عبثت بالرتابة التعايشية على مدى قرون، وخلقت أوهاماً لدى جزء كبير من نخب الشعوب المسيحية أن خلاصها يتوقف على قرار ذاتي بالثورة حيث أن الخارج جاهز لتحويل ثورتهم إلى مكاسب استقلالية.

2- القومية العثمانية

مرّت فكرة القومية بأطوار متوازية من الطروحات الإصلاحية، منها ما ظهر لدى تنظيم “العثمانيون الجدد” بقيادة نامق كمال، رائد القومية العثمانية.

ما قدمه نامق كمال كان رؤية أكثر منه نظرية. فالقومية العثمانية محاولة محلية، لم تتكرر، في إيجاد حل لمعضلة إدارة التنوع الداخلي بالتوازي مع تحديث الدولة الذي لا رجعة عنه وفق طراز الدولة الأمة، لأنه لم يظهر نموذج غيره ناجحاً في ذلك الحين حتى يتم تقليده.

الفكرة تفترض مساواة بين الرعايا المسلمين والمسيحيين واليهود ضمن توليفة قومية تصنعها الدولة من الأعلى تحت حكم آل عثمان. وهو – نامق – كان ذو نزعة تركية في الشعر والأدب، وألهم العديد من القوميين لاحقاً، مثل مصطفى كمال وخالدة أديب، ولم ينل إعجاب السلطان عبدالحميد الثاني الذي وصفه في مذاكرته بأنه شخص يعيش حياتين مزدوجتين دون أن يدري، رغم ذلك أثنى على خلاف نامق مع مجموعة مدحت باشا، الأكثر تغريباً.

خلال جهوده لإحباط الامتيازات الممنوحة للغرب، ظهرت معضلتان ذو نتيجة كارثية. فقد ازدادت ثقة الأرمن بأنفسهم كقومية لها قوة داخلية مسلحة، وعين غربية وروسية تحرص عليها. في المقابل، عمل عبدالحميد على إفشال ما وجد أنها نزعة استقلالية أرمنية داخل الدولة، بمعنى أنه رأى مبكراً فشل فكرة “القومية العثمانية”، فعمل على تدعيم موقف الجماعات المسلمة المجاورة للأرمن، خوفاً من هجوم أرمني على الدولة من جهة الجبهة الروسية، وقد حدث شيء من هذا القبيل في أعوام 1894 – 1896 وانتهت بمذبحة على أيدي تحالف “الأمّة الإسلامية” ضد “القومية العثمانية”.

3- القومية الطورانية

كان بداية تأسيس جمعية الاتحاد والترقي إحياء للفكرة العثمانية في إطار من الفلسفة الوضعية المتطرفة، إلا أن الفكرة لم تتأقلم مع العثمانية من حيث التاريخ. فكانت الجمعية تبحث القطع مع الماضي العثماني، والبدء من جديد، تحت الاسم ذاته. بعد عام 1906، حدث اضطراب داخل الجمعية بسيطرة العناصر المؤيدة للطورانية وتتريك الامبراطورية كاملة، وخرجت العناصر غير الطورانية، في مقدمتهم اثنان من المؤسسين الستة، هما الأكاديميان الكرديان عبدالله جودت واسحاق سكوتي.

لكن الفكرة القومية تحتاج إلى عدّة أكاديمية مشغولة وجاهزة، ومتكاملة، سواء بالاختلاق أو الاجتهاد أو الوقائع. ولم تكن المجموعة الطورانية تمتلك هذه العدّة حين تأسست جمعية الاتحاد والترقي نحو 1894 في باريس، لكن في باريس نفسها باتت هذه المجموعة تحت تأثير ثلاثة مفكرين تتبع نتاجاتهم، الباحث نيازي بيركيش في كتابه “تطور العلمانية في تركيا”.

أول هؤلاء ديفيد ليون، فقد قدم قراءة تاريخية صادمة حتى للقوميين العثمانيين، أمثال نامق كمال، معتبراً أن المغول (الذين وصفهم بالأتراك) بناة أهم امبراطورية في التاريخ، وجنكيز خان (التركي) أعظم قائد في التاريخ.

الثاني هو آرثر لوملي دافيدز، الذي حاجج في كتابه “قواعد اللغة التركية” على الاتصال التاريخي الاجتماعي بين اللغة التركية والشعوب التركية منذ القدم وحتى عهد محمود الثاني. وانتقد الكتاب الأوروبيين والأتراك على تمييز التتار عن الأتراك، فهم برأيه أتراك ولغتهم تركية. وقامت أمه بترجمة الكتاب بعد وفاة آرثر، وقُدِم هدية إلى السلطان محمود الثاني.

المفكر الثالث، أرمينيز فامبيري، (1832- 1913) وأجرى أبحاثاً اجتماعية ولغوية في الصلات الاثنية بين شعوب آسيا الوسطى وأتراك آسيا الصغرى. وهؤلاء الثلاثة، هم من يهود أوروبا.

رغم التوترات الحرجة في القرن التاسع عشر بين الكرد والدولة، لم يسقط التحالف التاريخي الكردي التركي، لكنه تعرض لانتكاسات شديدة وترنح في مراحل عديدة، خاصة منتصف القرن التاسع عشر. لقد استغرق أكثر من 400 عام منذ جالديران ونحو 900 عام منذ ملازكرت، وكان في كل مرة يجد ما يعيده إلى الحياة، وآخرها فترة السلطان عبدالحميد الثاني. وكما يشرح حميد بوز أرسلان في كتابه تاريخ تركيا المعاصر (ص 19، 20):

أتاحت الفترة الطويلة لحكم السلطان عبدالحميد الثاني؛ التي تميزت بغياب حروب كبيرة بين 1877 و1909 أن يعيد التفكير بالإمبراطورية في إطار هويّويٍّ جديد. وبدا عبدالحميد الثاني مدركاً أن الإمبراطورية ستنكمش في النهاية داخل الأناضول. كانت عقيدته تهدف إلى خلق تجانس في هذه «النواة الصلبة» وحمايتها بدائرةٍ تضم الجماعات المسلمة ولكن غير التركية؛ مثل الأكراد والعرب. كانت مذابح 1896-1894 التي أوقعت على الأقلّ مئة ألف ضحية أرمنية تشكل في الواقع الخطوة الملموسة الأولى نحو إعادة اكتشاف الأناضول ككيانٍ تركيّ ومسلم.

في 24 تموز 1923، قررت الشريحة الحاكمة للأناضول ليس فقط إنهاء 400 عام من الحماية الكردية التركية المشتركة للامبراطورية، أو على الأقل جبهتي القفقاس وإيران، بل قاموا بعد لوزان بكل ما يؤكد إحياء مشروع أوزون حسن في تتريك كردستان.

نقلاً عن: المركز الكردي للدراسات

شارك هذه المقالة على المنصات التالية